"المركز العربي ..." في عشر سنوات
طوى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قبل أيام، عشر سنواتٍ على انطلاقته، عزّز في أثنائها حضورَه الفاعل في الفضاء المعرفي والثقافي والفكري والأكاديمي والتربوي العربي، ليس فقط بتعدّد مشروعاته وبرامجه وتنوّعها، وإنما أيضا لحزمة أسبابٍ أخرى غير قليلة، منها تفاعله الحيوي والنشط مع الواقع العربي، على غير صعيدٍ ومستوى، بالتفكيك والتحليل، وكذلك بالمساهمة المؤكّدة التي أدّاها في إقامة ما يمكن تسميتها بنيةً تحتيةً مؤسساتيةً لأهل الأكاديميا العرب (بمساهماتٍ أجنبيةٍ أحيانا)، من أصحاب التأهيل المعرفي المخلص لأدوات الكشف والقراءة ومناهجها، ومن المنشغلين بقضايا الأمة وراهنها ومستقبلها، بمجتمعاتها وأسئلتها وتطلعاتها، لا يبشّرون بأفكارٍ خلاصيةٍ ولا بأيديولوجيات، وإنما يقدّمون نتاجا بحثيا، يلبّي حاجاتٍ ملحّة في الحالة العربية، ويختبر إمكانات الباحث العربي، عندما تتوفّر له الاستقلالية والشروط الموضوعية والبيئة العلمية، فتُسعفه هذه كلها في تأدية مهمّته، صاحب منظورٍ ورؤيةٍ في مجالات شغله الأكاديمي، النقدي الكاشف بالضرورة. وعلى ما لهذا الأمر من مكانةٍ أساسيةٍ وناظمةٍ في عمل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وأنشطته، إلا أنه لم يكن المظهر الوحيد الذي عوينت فيه فاعليّة المركز في العقد الذي مضى، فقد استحدَث عدة وحداتٍ دراسيةٍ فيه، ونشر أكثر من 400 كتاب، وتفرّعت منه مؤسساتٌ كبرى، وأطلق عدة مشروعات، وأقام شبكات اتصالٍ وتواصل عريضةٍ مع مجتمع المعرفة والبحث العربي، وأقام معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ومعهد الدوحة للدراسات العليا. وينتظم في إنجاز "المؤشر العربي" الذي بات استطلاع الرأي العام الأوسع والأشمل، ويُصدر ست دوريات محكّمة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية والسياسية و...، ونظم أكثر من 150 مؤتمرا وندوة عدا عن ورشات النقاش، وأفاد من الممكنات الشاسعة التي تتيحها التقنيّات الرقمية، فتوفّرت في بوابته الإلكترونية إنتاجاته التي ساهم فيها أكثر من ثلاثة آلاف باحث وباحثة، ولا تزيّد في القول إنها ثروةٌ ثقيلة القيمة.
ولأن الإحاطة بمجمل ما أعطاه المركز العربي، وما أنجزه، عملٌ صعبٌ حقا، ومن العسير إيجازه، جاء عظيم الإفادة من المركز إصداره، أخيرا، كتابا توثيقيا شاملا، مصوّرا، ضمّ إضاءاتٍ مختصرةً، ووافيةً ما أمكن، على كل ما تنوّعت فيه أعمال المركز المختلفة المشاغل في قضايا بلا عدد. جمع الكتاب، وعنوانه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عشر سنوات"، بين دفّتيه (220 صفحة صقيلة وأنيقة)، هذا كله، مع إيضاح الرؤية التي يصدُر فيها المركز في كل مناشطه، وأساسها "النهوض بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وخدمة النهضة العربية"، سيما فيما يتعلق بمضامين يلحّ عليها، تتصل بالدولة العربية والديمقراطية، وعلى أساس المواطنة، مع الاستفادة من "المشترك الحضاري الثقافي العربي في الحفاظ على وحدة المجتمعات العربية عندما تتاح التعدّدية السياسية".
وإذ يسقُط كثيرٌ من الإعلام العربي في الردّة المقيتة التي يقيم فيها مع أوهام الثورات المضادّة عن انتصاراتها بعد العام 2012، كان طبيعيا أن يُحارِب هذا "الإعلام" الذي لا تتحقق فيه شروط العملية الإعلامية وبديهياتها، المركز العربي، ليس فقط بتجاهل ما يُراكمه من منجزات، وبالتعمية على نجاحاته، وإنما أيضا بافتراءاتٍ سقيمةٍ تستهدفه، يصنعها جاهلون، ملتحقون بنظم الفساد والاستبداد المعلومة. ولكن أصحاب المشروعات النهضوية، وصنّاع مبادرات البناء والتأسيس، وناس الاجتهاد والمثابرة على العمل، وعلى رفع قيمة العلم والمعرفة عربيا، ليس لديهم فائضٌ من الوقت ليلتفتوا إلى أولئك، غير أن هذه الحقيقة لا تحجُب ضرورة توزيع الكتاب التوثيقي، الباهظ الأهمية، أوسَع ما يمكن، ليتوفر لعموم الجامعات العربية، طلابا وأساتذة، ولمؤسّسات الإدارة والتسيير في غير قطاع، وللعاملين في الإعلام بتنويعاته، مع ترويجٍ لازم لهذا الكتاب، ليس من باب دعايةٍ لا يحتاجها المركز، وإنما ليعرف من يريد أن يعرف أي منجزٍ أقامه أهل العمل والإخلاص في الانتساب إلى أمتهم. وهو منجزٌ ما كان ليصير لولا الجهود المضنية التي أدّاها، وما يزال يؤدّيها، مؤسّس المركز العربي ومديره العام، المفكر عزمي بشارة، بإسنادٍ مالي من دولة قطر، وبعونٍ من مختصّين في مجلس إدارة المركز، وبالأداء الباهر الذي يواظب عليه الباحثون والخبراء العاملون في المركز ومؤسّساته وفروعه، وكذا الإداريون العديدون .. شكرا للجميع فردا فردا.