المحامي وهو يخطف زبوناً من الأرياف

07 ديسمبر 2023

(عبد الهادي الجزّار)

+ الخط -

تُذكّرني باللبؤة، وهي تأخذ وضع استعدادها لبدء الهجوم على غزالٍ صغير تأخّر ما بين شجر الغابة عن اللحاق بالقطيع، وأغرته عروق المياه القليلة التي تنساب هادئةً من بين أوراق الشجر الجافّ الذي سقط، مباراة في غاية القلق الداخلي، وكأنها ما بين حارس مرمى مدرّب ولاعب حريّف وضع الكرة في مكانها بلا قلقٍ عند نقطة الجزاء، وعيونه في لمحات سريعة تراقب المساحات في مكرٍ كنمر، وبعدما يضع الكرة في المكان السليم يطلّ بخفّة ما نادرة لتلك الزاوية التي قرّر أن يركن فيها الكرة، ومحاولا، في الوقت نفسه، بشتى الإيهامات، أن يعرض على عيون حارس المرمى اختيارات كاذبة بقصد إرباكه وتشتيته.

مباراة كان ينتظرها المحامي بفارغ الصبر، من دون أن يشعر الزبون بذلك، ولكنه يتصّنع، إلى حدّ ما، عدم المبالاة أو انتظار مكالمة، أو البدء في مكالمةٍ لطرف آخر ينتظره أمام باب النيابة. ولكنه يعلن لهذا الطرف أنه في مهمة عملٍ أيضا قد تأخذ منه بعض الوقت، مباراة أيضا يحاول فيها الزبون أن يبدي ضيق ذات اليد وضيق الحال بشكلٍ ما، وعدم قدرته على أتعاب المحاماة لولا كثرة الإنذارات التي وصلت إليه من المحضرين بواسطة الخصم الذي تجمعه به قرابة وصداقة أيضا. هنا يشعل المحامي أول سيجارة باسما من كلمة "ضيق الحال"، محدّدا حجم العقار المتنازع عليه وقيمته المالية.

يحاول الزبون أن ينكّس من القيمة السوقية للعقار بأن على الأرض في الأصل مشكلات تحمّل جملين مع أولاد العمدة، يذكّره المحامي بأن له صلات نسب مع أولاد العُمدة عن طريق أولاد خاله من "قرية الحتاحتة"، يطلب الزبون الشيشة والشاي له والقهوة للمحامي، ويعتدل ميزان الكلام، ويروق أيضا مزاج المحامي، عند ذلك تبدأ تباشير "الأتعاب" للمحامي في الظهور على لسان المحامي شيئا فشيئا، يعتدل الزبون، ويطلب حجرا مليحا للشيشة، فيعدل المحامي من وضع الكرافت الرخيصة بعدما تمايل بها الهواء مع شطارة الزبون وحنكته وقدرته على مناوشة ميزان الكلام، ويشير للزّبون إلى يافطة مكتب قريب بالدور الثامن في برج سكني قائلا له: "والله لو طلعت الدور الثامن، لكان قال لك: أتعابي تلت الأرض ومع الحكم النهائي عجلين".

ابتسم الزبون، وأشار إلى سيارته ربع النقل القديمة الجالس فيها ثلاثة عيال من زوجته الجديدة، وقال للمحامي: "القراريط المتنازع عليها فوق كل خرّوبة عيل جائع من زوجته القديمة. أما عيال الجديدة فهم وراء الجاموستين في الهيش والحال طين في السنين الأسود من قرن الخرّوب". ضحك المحامي، وقال إن الخرّوب لا يزيد في الأسواق، إلا حينما يتكلم المحامي عن أتعابه، أما أتعاب الطبيب فتدفع قبل الكشف.

عند ذلك، طلب الزبون من المحامي أن يصلّي على النبي، فصلّى المحامي على النبي كما قال الزبون. فجأة التقط الزبون هاتفه المحمول الكبير من جيب الصديري، وفتح للمحامي فيديو دقيقتين لمعركة بالمطاوي والسنج وعروق الخشب حدثت من يومين في عزبة مجاورة لهم بسبب الخلاف على ثمن "نقلة رمل". كنا نتركه في الشارع بعد البناء، ثم أكمل كلامه ضاحكا وهو يقول: "... لكن عموما أمسك الخمسمايه دول وصلّ على النبي".

أخذ المحامي الخمسمائة، وأطلّ لساعته ذاكرا للزبون أن أرقام قضاياه "بالرول" على وشك ومشى بدفاتره. عاد الزبون باسما لأولاده وهم يتشاكسون فوق "التويوتا" ربع النقل القديمة، فقال له أصغرهم: "إنت مش قلت هجيب لك كنافة؟". لم يرد الزبون على العيل، واطمأن على بقية فلوسه، بعدما أعطى المحامي مقدّم أتعابه، وأخذ الصغير يشاكسه في أمر الكنافة في كابينة السيارة". والزبون يحاول جاهدا أن يجد له أغنية تروق له في الراديو، حتى استقرّ على إذاعة القرآن الكريم. وفي الطريق، اعتدل للصغير وقال له: "إن خالك العبيط كان فيه منك كتير". حاول الصغير أن يشير للوالد على واجهات الدكاكين، ولكن الزبون ضحك، وقال للعيّل الصغير: "أنا مش قلت لك ... أنت زيْ خالك عبيط".

دلالات
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري