الكاميرا وعيون الديكتاتور وعيون الناس

22 سبتمبر 2022
+ الخط -

لعبت الكاميرا دورا مهما في تقريب خبايا الديكتاتور إلى عيون الناس، حتى وإن حاول جاهدا أن يداري الخبايا عن ناس شعبه بهدهدة الكلمات الرقيقة الحانية أو الاستعانة بطلقات الوطنية وتبطينها بالوعيد والأمل الشاسع هناك بعد تجاوز الأزمة. هل أضاعت الكاميرا على الديكتاتور، أي ديكتاتور، نصف حيلته ومكره، ونصف ديكتاتوريته، ونصف قسوته، وأكثر من تسعين في المائة من ألاعيبه التي كانت تتم تاريخيا من وراء جدران قصوره، وبعيون رجاله على الحدود والثغور؟ هل خلخلت الكاميرا كثيرا من مكر عين الديكتاتور وخبايا خططه، وما يخطّط له سرا في كهوف الدبلوماسية؟ العيون فضّاحة من دون أن ندري، والأزمات المتشابكة في أطراف الأرض تعلنها الكاميرات بالأرقام صبح مساء على الناس، وأمام الكاميرا يتحوّط الديكتاتور جاهدا في إخفاء الأسباب الحقيقية، وجعلت الديكتاتور، بعد ضحكة طويلة وماسخة، يحاول جاهدا اختلاق أزمةٍ هنا أو هناك، أو حتى فضيحة هنا أو هناك، والكاميرا ترصد حتى خلجات عيونه وهو يحاول أن يبرّر مشكلات العالم أو يرصّها بجوار مشكلاته، وأن مشكلاته هينة جدا أمام الطاعون أو الحروب المجاورة.

يحاول الديكتاتور جاهدا أن يجعل كل أزمة قريبة بطانة لتبرير أزماته، وحينما تضيق السبل يختلق الحرب، فالحرب هي الباب الملكي لتبرير الفشل وتسويقه إن أمكن، ومطالبة الشعب بدفع ثمنه حفاظا على التراب وكرامة للوطن الذي يحمينا جميعا، وهذا سرّ محبة الديكتاتور الحرب، فالحرب نار مشتعلة تحمي الملك من بعيد في الداخل، وتخيف الشعب وتخيف حتى اللصوص، الديكتاتور يحبّ أي حرب، لأن الحرب ضمان نجاةٍ لمركبه من الغرق، أو على الأقل ضمان حماية لمركبٍ أوشك على الغرق. الحرب عموما هي حيلة التعساء، والكاميرا فضّاحة لكل ذلك الخراب الذي يتركها أي ديكتاتور خلف ظهره ويهرب، أو ينتحر، أو يحترق، أو يرى مقتولا في كهف وتنهشه السباع في غابة، ودائما تكون ميتته غامضة، هل لذلك يسجّل تاريخ كل تعيس أحب أن يستمر ملكه للأبد؟

الكاميرا هناك ناعسة في زاوية من البحر حيث قصوره، أو هناك في القصر الجمهوري تصوّر حمامات السباحة في سريلانكا أو بغداد أو غيرهما. الكاميرا هناك ناعسة خلف زجاجها وتلتقط. هل لأجل ذلك يقتل الطغاة الصحافيين والمصوّرين في أي حرب وفي أي مظاهرة وتحطّم الكاميرات وتسحب الأفلام أو تصادر الكاميرات، حتى "فيسبوك" يتم تفتيشه؟ لماذا يخاف الديكتاتور من الكاميرا رغم أن الشرطة واقفة هناك، والأمن في كامل تحكّمه بالزناد، والإعلام خلفه ظهره بالكلب، لا الشعب، وخزينة الدولة معه والقروض تأتيه من كل صوبٍ معه، والسجون وقد فتحت أفواهها كاملة العدد في أي وقت ومُحكمة الغلق، فلماذا بعد ذلك كله يختلق ويستجلب الحرب أو سيرتها؟

عيون بوتين حيادية جدا وبلمعة قط وكأنها تنافس الكاميرا وتخاتلها، وتحاول أن تسلب الكاميرا تتابع صورها، عيونه حذرة جدا للكاميرا، ويتعامل معها بلا تركيز وبلا اهتمام ولا خوف، وكأنه يتوعّدها بعد ألف سنة. واضح أن الكاميرا، هي الأخرى، باتت حذرة من عيون بوتين. فقط تركز على صفاء العين وعدم قلقها أو خوفها، حتى وهو يهدّد بالنووي أو دفع الأثمان الغالية لخصمه. يجيد بوتين المخابرات أو الحروب حماية لأحلامهم في كتب مقدّسة قديمة حلموا فيها بسيوفٍ حمراء مكتوب عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، أو حلموا بعدلٍ يخرج فجأة مقدّسا وبهيا من بهو مذابح كنائس الشرق، حينما يقتل الجار جاره ببشاعة غير مقدّسة ولا حتى إنسانية ولا فيها حتى مبدأ النديّة أو العدل.

الديكتاتور وهو يمشي فوق الجثث يستعين بموسيقى وطنية وأغنيات وسجون وممثلين وممثلات وإعلانات باذخة عن مدن خضراء جدا، خالية من القطران، بل تعمل جميعا بالطاقة النظيفة. الديكتاتور يتماحك في كل شيء، في العدل، والكاميرا، والسينما، وفاتن حمامة، وشعرة الرسول، ومكحلة عائشة، والأطفال العجزة، ثم ينطلق بالبسكلاتة بعدما يتعاقد على عشرين طائرة مقاتلة، وكأنه في انتظار حربٍ، رغم أنه يغني ورجاله للسلام في حدائق مليئة بالورد وتخجل الكاميرات من جمالها. والشعب هناك، من دون أن يعرف هو، في منتهى الخبث يقارن ما بين جمال الورد خلفه في البساتين والفلوس التي تسحب من جيوبهم عنوة في المحاكم والمستشفيات والضرائب والفواتير. والديكتاتور هناك، طول عمره، يخيف الناس من وراء الكاميرا بالخراب أو الحرب وبعذاب الأيام المقبلة، لو تخليتم عن الوطن وأدرتم له ظهوركم، وكي يخاتل خبث الكاميرا، يُسقط دمعة رقراقة تملأ زجاج العدسة وتربكها.