القلب يعشق الجمال والجميلات
أفسد علماءُ التشريح علينا - نحن العرب - متعةَ الحديث عن القلب، إذ أكّدوا أنّه عضو مهم في جسم الإنسان (والثدييات عموماً)، يضخّ الدم في الشرايين، ليعود إليه نقياً، بعد أن يُستبدل الأكسجين بثاني أكسيد الكربون. وليس له أيّ قيمة بعيداً عن وظيفته البيولوجية.
لكنّ القلب، في لغتنا العربية، يحمل معاني مجازية مختلفة، منها أنه يتفكّر ويعقل، بدليل قول الله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآنَ، أم على قلوبٍ أقفالُها؟". وهو، أيضاً، مكان الإيمان بالله، فعندما يتطاول زيدٌ من الناس على عمرو، ويتهمه بالكفر، سرعان ما ننبري له ونسأله: كيف عرفتَ؟ هل شققتَ عن قلبه؟ والقلب مركز العشق في الجسد، ولهذا يحتل مكانةً مرموقةً في الشعر والغناء، وأنت تجده، من دون أن تبذل كبير جهد، عند قيس بن الملوح، مجنون ليلى، الذي يقول في قصيدة، يغنّيها لطفي بوشناق: لو كان لي قلبان عشتُ بواحدٍ/ وأفردتُ قلباً في هواكِ يُعَذَّبُ. (لاحظ أنّ الشاعر المجنون يستخدم المعنيين، الطبي والمجازي، في بيت واحد؛ إذ يخصص القلب الأول لاستمرار الحياة والثاني لعذاب العشق).
قلّما تخلو قصيدة للشاعر الغنائي الكبير بيرم التونسي من ذكر القلب، ففي واحدة من بواكير قصائده التي لحّنها زكريا أحمد لأم كلثوم، وعنوانها الأوّلة في الغرام، تقول العاشقة: "حطّيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي، وأقول يا عين أسعفيني وبالدمع جودي". ويبدأ القصيدة التي كتبها تمجيداً للديار المقدسة، ولحّنها رياض السنباطي سنة 1972: بقوله: "القلب يعشق كل جميل/ ويا ما شفتي جمال يا عين". بيد أنّ وضع اليد على القلب، وعشق القلب الجمالَ، استخدامان بسيطان لمفهوم القلب. ولعلّ نسبة البلاغة في المعنى ترتفع عندما تغنّي ليلى مراد، من كلمات أبو السعود الإبياري، ولحن محمد القصبجي: "أنا قلبي دليلي/ قال لي حَ تحبي".. فالقلب، هنا، يستشرف المستقبل، ويتكلّم مع صاحبته، ويتوقع لها الوقوع في الحب. وهذا يأخذنا إلى أغنية أخرى بديعة اللحن، كتبها مرسي جميل عزيز، ولحّنها محمد الموجي، وغنّتها فايزة أحمد "أنا قلبي إليك ميّال". ومحمد عبد الوهاب يجعل القلب مكاناً لحفظ الأفكار والأسرار، يغني "خايف أقول اللي في قلبي".
أحمد رامي قامة شعرية لا يجود الدهر بمثلها إلّا لماماً، فلو دفع الفضول امرأً ليعرف مَن هم مؤلفو أغاني أم كلثوم الخالدة، لرأى أنّهم قلّة قليلة، بينهم رامي. وهناك حادثة طريفة لها علاقة بالخصام الذي وقع بين سيد مكاوي وأم كلثوم، بعد اتفاقهما على تلحين أغنية "أنساك" سنة 1961، وكان قد سألها، على استحياء: "حَ تدفعوا لي كام؟"، فقالت: "بيكفيك فخر، يا شيخ سيد، إنّك تلحن لأم كلثوم"، فقال لها، بأسلوبه الفكاهي المعهود: "أصلو البقال بتاع حارتنا، لما نشتري منه حاجة بياخد فلوس، وما بياخدش فخر"... وبعد عشر سنوات، حينما راقت الأحوال، طلبت منه أن يقدّم لها لحناً، فوافق، لكنّه اشترط أن تكون القصيدة لرامي، فكانت أغنية "يا مسهرني" 1971، وفيها مقطعان يكون القلب فيهما طرفاً ثالثاً، يتوسّط بين الحبيب والحبيبة، أولهما؛ "دا أنا قلبي بيسألني إيه غير أحوالو؟" والثاني، "أقول لروحي وأنا ذنبي أيه؟ يقول لي قلبي حلمَك عليه".
هناك مَن يتحدّث عن نبض القلب، أعني مطربنا الراحل فهد بلان في أغنية شهيرة جداً، "جَسَّ الطبيبُ لي نبضي". وله أغنية حوارية مع المطربة سحر، يتحدّثان فيها عن القلب بعد تصغيره إلى قليب، فيقول: "آه يا قليبي، آه يا قليبي آه يا قليبي"، فتسأله: "شبو قليبك؟"، فيخبرها: "حاسس بيه عَمَّال يدقّ زيادة". وهذا كله تنويع على التعبير عن العشق. وأحسب أنّ الشاعر ميشال طراد رفع بلاغة الأشعار القلبية إلى ذروة عالية حينما كتب لتغني فيروز: "وَقَّفْت قلبي ع الدرب ناطور".