القفز فوق الحاشية
في قسم أمراض القلب في أحد المشافي، حيث كنت أخضع للعلاج، أحضروا رجلا ستّينيا كان قد بات ليلته في قسم الإسعاف، ولم تمض دقائق حتى حضر طبيب القسم المسؤول عن عنبرنا، وبدأ إجراء الفحوص المعتادة التي يقوم بها مع كل قادم جديد، مثل قياس ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم وما شابه. وفي الوقت نفسه، وجّه له سؤالا اعتاد على ما يبدو أن يوجهه إلى الطازجين من المرضى، فسأله عن سبب النوبة القلبية التي أصابته، فقال الرجل الذي عرّف عن نفسه بأنه بروفيسور في الاقتصاد إن ذلك يحدث معه كلما انفعل، فسأله الطبيب الذي يبدو أن مزاجه اليوم جيد عن سبب انفعاله، فقال:
- أرسلت دراسة اقتصادية تتضمن طرق الخروج من الأزمة الاقتصادية إلى السيد الرئيس، ولكن الحاشية العميلة حالت دون وصول الدراسة إلى عالي المقام. الإعدام شنقا ورميا بالرصاص معا قليلٌ بهذه الحاشية التي تشكل أعمالها ما يشبه الخيانة العظمى.
الطبيب عندما سمع كلمة (الرئيس) سرت في بدنه قشعريرة تسري في أبدان أفراد الشعب كافة، عند ذكر هذه الكلمة. ولذلك حاول أن يجعله يسكت، ولكن البروفيسور لم يتوقّف عن ذمّ الحاشية وكل بضع دقائق يطلب: "النسوان يسكّرو أدانيهن". .. ثم يطلق بحق أم الحاشية أقذع الشتائم.
أخذ الطبيب يتلفت باتجاه المرضى، وكأنه يبحث بينهم عن شهودٍ عيان، يؤكّدون، عند الحاجة، إنه لم يكن سوى مستمع، ولكن المرضى كانوا قد سبقوه إلى الهرب، فتصنّع أحدهم أنه نائم، وأخذ يشخر، لكي ينتبه الجميع إلى أنه نائم. وتناول الآخر على عجلٍ جريدةً، كانت على الطاولة. لعجلته لم ينتبه إلى أنها كانت مقلوبة. ولأن أحدا لم يشاركه الحديث، قرّر البروفيسور الصمت. وبينما كانت الممرضة التي أحضرت جهاز تخطيط القلب المتنقل تلصق نهايات الأسلاك الموصولة إلى النقاط المطلوبة للتخطيط قال:
- لا نبيّ في وطنه. الحاشية وجدت لا لكي تعرقل عمل سيادته، وتقف حاجزا بينه وبين الشعب، بل لكي تساعده في التواصل مع أفراد الشعب. وتحدّث عن فاليري جيسكار ديستان الذي أرسل صاحبنا إليه دراسةً بخصوص أزمه فرنسا الاقتصادية، فلم يمنعها عنه أحد، بل شكره الرجل على مبادرته، إذ ضغط السفير الفرنسي وهو يصافحه، في أثناء حفلة شاي أقامتها السفارة الفرنسية بمناسبةٍ ما، على يده. وهذه كما أكد البروفيسور تعني، بحسب الأعراف الدبلوماسية، "شكرا". وأطرى البروفيسور بشكل خاص على الرئيس الهندي، زين العابدين عبد الكلام، ولكنه، في الوقت نفسه، أبدى أسفه، لأن الرئيس في الهند مجرّد منصب اعتباري، لا يحل ولا يربط.
في اليوم التالي، التحق بالعنبر عجوز اسمه أبو فيصل. أكد أن ابنه فيصل يفكّ مشنوقا، فانتعش البروفيسور، وسأله إن كان فيصل يستطيع القفز فوق الحاشية، فأكد أبو فيصل أن كلمة فيصل لا تصبح اثنتين عند "فوق". وتنهد البروفيسور الصعداء، وشكر الله على احتشاء العضلة القلبية التي عرّفته بأبي فيصل. وعند قدوم فيصل للاطمئنان على أبيه، شرح أبو فيصل له القصة، وطلب منه أن يساعد البروفيسور في القفز فوق الحاشية، فوعد فيصل والده خيرا، وأخذ نسخةً من الدراسة، وأكد للبروفيسور أنه سيوصل الدراسة إلى المكان المطلوب، ولكن أبا فيصل سرعان ما غادر المشفى بعد ساعات على عجل، ولم يلتق البروفيسور بفيصل بعد ذلك أبدا.
قبل وفاته، بعد عشرين عاما من مغادرته المشفى، لم يترك البروفيسور بابا لم يطرقه، بحثا عن شخصٍ يستطيع القفز فوق الحاشية، لكي يوصل دراسته المحدّثة، تبعا للمعطيات الجديدة، أكثر من عشر مرات، ولكنه لم يستطيع العثور على مثل ذلك الشخص. ولم ينتبه البروفيسور إلى أنه في أثناء بحثه عن شخصٍ يستطيع القفز فوق الحاشية، كانت الحاشية قد تغيرت عدة مرّات، ولم يحافظ على استمراره سوى الثابت الوحيد الذي يسعى إلى إيصال الدراسة إليه. مات البروفيسور، وتحت إبطه دراسة تحتاج حصانا يستطيع القفز فوق الحاشية.
أرجو، يا بروفيسور، أن تكون، خلال حياتك، قد ارتكبت من الآثام ما يكفي لزجّك في الجحيم، لكي تحقق حلمك في الوصول إليه، لأنه المكان الوحيد الذي يمكنك فيه العثور عليه، بعد أن تخلّت عنه الحاشية.