القاتلُ شمس
تعوّدنا أن نذكر "الشّمس" بالتعريف، لأنّ هناك شمساً واحدة، كما أن هناك قمرا واحدا. لكن مع تناسل الأجرام التي نعلم بشأنها، واتساع الكون أمام عدسات الإنسان، صرنا نعدّ الشّموس عدّا، كحبّات عنبٍ في راحتنا. كما أن الشّمس الأرضيّة نفسها ليست شمساً واحدة. ولو كانت لضاعَ الواحد منّا، وبقي لصيقَ طقسٍ واحد. فشمسُ جنوب أفريقيا ليست شمس شمالها قطعاً، وشمسُ شرق آسيا تختلف تماما عن غربها، وعن الصحراء العربية. وأجمل الشّموس، في نظري، شمس المتوسّط.
لو أن شمس الأرض واحدة، لما سافر الناس من أجل شمس بلدٍ آخر. وهو ما فعله الفنان الفرنسي يوجين دولاكروا بالمجيء إلى طنجة، وعندما صادف طقساً غائماً اغتمّ وندم على زيارة بلد شمسُه مزاجية. لكن ما إن صفا الجو حتى رضيَ، ولقي ما يشتهي ورسم بعض أشهر لوحاته.
مع هذا الطّقس الجهنمي، وطغيان الشمس على أهل الأرض، غيّر الأبرياء من التآمر معها، بدأتُ أقول: هل حقّا أحبّته فيروز في الصّيف؟ وكنت أقول سابقاً: هل أحبّته في الشتاء؟ كأن التلفّع في طبقاتٍ من الملابس تقضي على الأناقة والجاذبية الخارجية، سيجذب قلب كائنٍ مشمسٍ مضيء مثل فيروز. على عكس من يلبس، بسلامته، قميصاً خفيفاً في الصّيف، فيظهر تأثير الشمس التي لوّحت بشرتُه بطبقة ذهبية تشي باستمتاعه بالحياة.
لكن شمس هذا الصّيف تجعل المرء والمرأة يودّان لو يفرّان من حبيبهما وذويهما، لو يتركان جسديْهما تحت شجرة، ويهربان إلى حضن غيمةٍ في القطب الثلجي. ألبير كامو الذي قتل غريبه شخصاً بريئاً، حمله سوءُ حظّه إلى حتفه، خلف ضربة شمس سدّدت لهيبها أمام الغريب، ذو الذهن المشوش. لو كان اليوم غائماً أو معتدلا، لقضى الغريبُ يومَه مرتاحاً في ما يعرفه جيّدا، وهو الضّباب الذي يملأ رأسه، ولن يفرّق بينه وبين ما يحدُث حوله. كما قد يحدُث لأحدنا، فأحيانا يودّ الواحد أن يضغط على زرٍّ يمحو الجميع من حوله. ولن تهتزّ شعرة منه لفكرة أن هذا يعني انتقالهم إلى منطقة العدم. ربما يقتُل أحدُنا أحداً حقّا بسبب ضربة شمس، كأن يدوس بريئاً عابراً بسيارته، بعد أن أعمت الشمسُ بصرَه وبصيرته.
لو أن مروحةً تقيم في جسدي، تصعَد وتنزل بحيث يبرد المرء من الداخل ليواجه حرارة الخارج. ربما يخترعون، يوماً ما، سائلا مبرّدا يخفّض درجة حرارة الجسد من الداخل. تشربه فتبقى منتعشا عدة ساعات أو أيام، حتى أكثر، حسب سعر الجرعة. ربما يزيد السائل نسب الأوكسجين في رأسك ورئتيك، فتتحمّل حرّ الصحراء بسهولة. ولعلهم حينها يخترعون محلولاً مضادّا، فتركض في ثلج القطب الجنوبي باستمتاع، كأن البرد مجرّد إشاعة.
ما أحببتُ الصّيف من أجله هو ليالي السمر الطويلة واللطيفة على السطوح أو في الحدائق أو على الشاطئ. وقلّة الملابس وخفّة الأجساد، وتضاؤل شهية الأكل، لأن الجسد يفيض بالطاقة ولا يحتاج ما يدفئه. ولأن كتبا كثيرةً ورواياتٍ خلّدت الصيف كمسرح لأجل القصص والغرائب. ماذا يمكن أن يفعله المرءُ في البرد؟ هو المنشغل باتّقاء لفحاته. كل المرح والمغامرات خارج البيت، لا داخله في حضن بطانيته. للصّيف عالمٌ كامل، وله "دعابات الطقس الحارّ"، وهو عنوان مجموعة قصصية لألبرتو مورافيا. ومن زار روما سيُصادق على كلامه، رغم أن صيفها يتراوح بين شمسٍ ساحرة الغروب وأخرى ثقيلةٍ في الظهيرة.
نحن المتوسّطيون وسكان الأراضي شبه الباردة، نتحدّث عن شمس الصيف مصدرا وحيدا لفرط الحرارة، نمقُتها ونقطر عرقاً كما يقطر الغسيل اليدوي على الحبال. بينما يتحمّل الصحراويون الشمس والرمال التي تحرق أجسادَهم بالقدر نفسه. مع ذلك، لا يزعجهم شيء سوى قلة الماء. كل شيء يُحتمل، ولا فرق بين الفصول إذا توفّر الماء. لكن من أين سيأتي الماء لهذا الحرّ؟ ومن أين يأتي الدّفء لذاك البرد؟ إذ صارت أكثر البلدان اعتدالاً في طقسها بحاجة إلى آلاتٍ لتحمّل دعابات الطقس الثقيلة. لكن، مرّة أخرى، من أين ستستمد الآلات وقودها؟ لا بد أن هناك حلا ما لذلك، ولكن الإنسان المشغول بالذكاء الاصطناعي أغفل الذكاء الطبيعي، والإمكانات التي قد تخبّئها الطبيعة لشفاء نفسها.