الفن بين الابتذال والرقابة

22 نوفمبر 2021

(صلاح طاهر)

+ الخط -

معركة حامية يخوضها حالياً نقيب المهن الموسيقية في مصر، هاني شاكر، ضد أصواتٍ قرّرت النقابة منع أصحابها من الغناء، إلى حد أنّ الوسط الفني نفسه انقسم بين مؤيد لمبدأ "المنع" في الغناء والفن ورافض له. وشأن كلّ حدث جديد في مصر، أصبحت هذه القضية حديث "السوشيال ميديا"، وأثارت نقاشات واسعة وحادّة بين مستخدمي "تويتر" و"فيسبوك". بين من يرى أولئك المغنين الممنوعين شرذمة مُدّعين سيئي الأصوات قبيحي الأشكال والأسماء، ومن يراهم تعبيراً صادقاً عن واقع المجتمع، ولا سبيل إلى إنكار وجودهم المرتبط بأذواق المستمعين، بدليل أنّ لكلّ من هؤلاء مريديه، ليس فقط داخل مصر، بل خارجها أيضاً.
وعلى ذكر الأصوات والأسماء، يجب الإقرار بأنّ أصوات هؤلاء فعلاً قبيحة، وأسماءهم ليست أقلّ قبحاً. منها: الديزل، الزعيم، العصابة، المدفعجية، شاكوش، ريشة، حمو بيكا، شواحة، حاحا، الصواريخ، العفاريت، الكعب العالي، كزبرة، حنجرة، شطّة، وزّة. ورمزياً، من الصعوبة بمكان أن تكون هذه الأسماء لحاملي رسالة أو أصحاب فكر أو حتى مُبدعين بوهيميين، فالأسماء تدل بذاتها على مدى هبوط ما يقدمه هؤلاء للجمهور وابتذاله، وعمق التدنّي الأخلاقي والانحدار القيمي والتصحر المعرفي ليس لديهم وحسب، بل أيضاً لدى الطبقة الاجتماعية التي خرجوا منها.
ومن منظور علم النفس الاجتماعي، لا بد من الاعتراف بأنّ ظهور هؤلاء وانتشارهم وتزايد أعدادهم، وإن ببطء، في المجتمع المصري، ليس إلا نتيجة تحوّلات عميقة في البنيتين، الفكرية والنفسية، للمجتمع المصري، فهم، في النهاية، إفراز لوضع مجتمعي قد لا يجسّد الغالبية الساحقة من المصريين، لكنّه أيضاً ليس مقصوراً على قلّة محدّدة أو طبقة ضئيلة العدد أو التأثير.
لذا، لا بد من تصحيح نقطة البداية عند النظر إلى هذه الظاهرة، فهؤلاء ليسوا دخلاء مُقحَمين على الساحة الفنية، ولا على المجتمع. وبالتالي، لا يكون التعامل معهم بمنطق الجبر والإرغام، ولا بمنطق الاستئصال الجراحي. لأنهم جزءٌ من نسيج مجتمعي يحتاج إلى تقوية ومناعة ثم تطهيره تدريجاً، وبسلاسة. فالمجتمع مصدر إنتاج هؤلاء. مع التسليم بأن ثمّة عوامل مساعدة كثيرة روجتهم، ودعمت وجودهم، بل وإظهارهم وعرضهم على الطبقات التي لم تكن تدري عنهم شيئاً، من خلال الإعلام الذي يناقض نفسه، حين يطالب المجتمع بالرقي والتحضر، فيما هو يقدّم أسفل درجات الانحطاط الفني والثقافي.
زاوية أخرى مهمة في هذه الظاهرة، متعلقة بالدور الوصائي الذي تلعبه السلطات في مصر والدول الشبيهة بها، فواقع نقابة المهن الموسيقية التي يمثلها الفنان هاني شاكر أنها ليست كياناً شعبياً، ولا هي منظمة مجتمع مدني، بل هي نقابة معنية يفترض أنها تمثل أصحابها وتتولى تنظيم مصالحهم وضمان حقوقهم المادية والأدبية. وتسري اختصاصات النقابة وصلاحياتها على أعضائها، ومن يريد الانضمام إليها. وحتى حين يتعلق الأمر باستيفاء معايير الانضمام، يثور التساؤل عن نسبية تلك المعايير أو موضوعيتها. بالتالي، إن حججاً من نوعية "الذوق العام" وأخلاق المجتمع" و"الابتذال" وغيرها يصعب تعميمها، فضلاً عن تحديد ملامح واضحة وتعريفات مفاهيمية أو إجرائية محدّدة لها. وهنا، تحديداً، تكمن المشكلة في أزمة الفن والأدب في مصر، ليس في الغناء فقط، بل في كلّ مجالات الإبداع وأشكاله، السينما والمسرح والأدب والشعر والصحافة وغيرها. وكما أنّ الفن الهابط (مع نسبية التوصيف) نتاج مجتمعي، وليس غرساً سلطوياً بالكامل، فإنّ الارتقاء به لا يكون بقرارات أو فرمانات فوقية، بل برفع الوعي المجتمعي وتعميق التكوين المعرفي والأخلاقي، فيلفظ تلقائياً تلك النتوءات الفاسدة، وإلّا فإنّ أيّ محاولةٍ لمنع من يسمي نفسه مطرباً سيقابلها مولد عشرات غيره من البيئة نفسها المنتجة له.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.