الفلسطيني ومعركة الوعي

17 سبتمبر 2021
+ الخط -

حكايات كثيرة راجت، وتواترها الناس خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى وما بعدها. حدث بعضها في الواقع فعلاً، ولها من شهود العيان ما يكفي لتأكيدها، وبعضها كان من نسج الخيال أو المخيلات الشعبية الباحثة عن معجزاتٍ في زمن مواجهة الحجَر دبابة الميركافا. وما بين الواقع والخيال، كانت القيادة الموحدة للانتفاضة تتعمّد ترويج قصص بطولات شعبية لرفع المعنويات وتعزيز الوحدة الاجتماعية. واحدة من تلك القصص التي راجت على نطاق واسع، وتناقلتها أجيال انتفاضة الحجارة بفخر واعتزاز، قصة المرأة الأرملة التي تسكن في منزل متواضع مع بناتها الثلاث، هن ما بقي لها بعد استشهاد الزوج. وفي القصة أن شاباً يطارده الجيش الإسرائيلي، ضاقت عليه الحلقات في الجبال والبساتين، ولم يكن أمامه سوى اللجوء إلى أحد المنازل في الضفة الغربية، فكان أن طرق باب السيدة في ساعة متأخرة من الليل، لم تتردّد المرأة في فتح الباب للشاب، بعد أن أخبرها أنه هاربٌ من الجيش، ثم طلبت منه الذهاب إلى غرفة تنام فيها واحدة من بناتها، وطلبت منه النوم إلى جانب الفتاة، وعندما وصل الجنود وطرقوا بابها سائلين عن الشاب، قالت المرأة، بكل ثقة وهدوء، ليس هنا من تبحثون عنه، لا يوجد هنا سوى أنا وبناتي، إحداهن في هذه الغرفة مع عريسها وقد تزوجا قبل يومين. انصرف الجنود. والعبرة في القصة أن المرأة الشجاعة احتضنت الشاب المطارد وحمته بأغلى ما عندها، بوعي وطني تسامى على أي اعتباراتٍ أخرى. قصص بطولية مماثلة كثيرة تزخر بها ذاكرة الانتفاضة الأولى التي كان من أعظم نتائجها تعزيز النسيج الاجتماعي بين مكونات الشعب الفلسطيني وتمتينه.

توقفت الانتفاضة الأولى على أساس وعودٍ كاذبة بدأت في مؤتمر مدريد 1993، ولا تزال مستمرة. ومن رحم "مدريد"، وُلدت "أوسلو" التي ظنها بعضٌ فلسطيني طريقاً للخلاص والسلام والعيش الرغيد، بينما أرادها الاحتلال حيلةً للقضاء على انتفاضة الحجارة وقيمها، وتفكيك كل البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أوجدتها المقاومة الشعبية. وبالنظر إلى ما جرى من مياه عكرة منذ 28 سنة، يتّضح جلياً كيف نجحت "أوسلو" في تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشاريع ضيقة لا يتجاوز أوسعها الحكم الإداري المدعوس تحت بساطير الاحتلال، بتعبير رئيس السلطة الفلسطينية. ومع ذلك، يظل أخطر خرابٍ أحدثته "أوسلو" هو نجاح الإسرائيلي في اختراق بنى المجتمع الفلسطيني ومكوناته على المستويين، الأفقي والعمودي، وتقسيمه إلى كانتونات جيواجتماعية: مناطق 48 وسلطة، غزة وضفة، شمال وجنوب، مخيمات وقرى ومدن، مواطنين وعائدين، داخل ومغتربين (حسب التسمية الجديدة لوزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية) .. إلخ. وخلال سنوات "أوسلو"، وحكم السلطة، تراجعت كل التشكيلات التي أثمرتها انتفاضة الحجارة، أو تلك التي ظلت من بقايا الثورة العائدة للوطن على متن باص "أوسلو". بدايةً، تراجعت الفصائل والأحزاب لصالح منظمات المجتمع المدني أو مؤسسات "NGOs"، ثم تراجع الجميع لصالح تنامي النفس المناطقي، وعودة النفوذ العائلي والعشائري، وصولاً إلى تعالي الأنا الفردية.

متابعة حثيثة لمنصّات التواصل الاجتماعي عند أي هزة تقع وسط المجتمع الفلسطيني أو على أطرافه تكشف حجم الخراب الذي أحدثته أوسلو. ومن فوضى هذا الخراب، تنجح ماكينات الاحتلال في التسرب لتوسيع الشقوق، فيبدو الشعب الفلسطيني وكأنه شعوب وقبائل لم يتعارفوا من قبل. مهما كانت مآلات "أوسلو" مأساوية على مشروع تحرير الأرض، فإن أخطر ما في "أوسلو" فعلها المضارع والمستمر لضرب مشروع تحرير الإنسان، وكي الوعي الفلسطيني، الجمعي والفردي، الذي تنامى في الانتفاضة الأولى، وبزغ مجدّداً في الانتفاضة الثانية. وقد تكشفت الغايات العميقة لأوسلو خلال الاجتياح الإسرائيلي مدن الضفة الغربية في العام 2002، خلال عملية "السور الواقي"، وعلى لسان رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، الجنرال موشيه يعلون، بقوله إن المطلوب هو "كيّ الوعي الفلسطيني"، حتى "يعرف الفلسطينيون في أعماق وعيهم أنهم شعب مهزوم".

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.