الغُزاة في مطابخ الغزّيين
ذلك المساء، في اليوم الثلاثين للعدوان، أطعَمت نهال أطفالَها، ثم نظّفّت مطبخَها، وتهيّأت للنوم في غرفتها، لتنتظر في اليوم التالي عودة زوجها محمّد إلى المنزل في مخيّم جباليا، لم ترَه منذ شهر، أفرَج عنه الاحتلال، وهو أحد العمّال الذين اعتقلهم يوم 7 أكتوبر، وضعوه في جنوب القطاع، ولم يستطع الوصول إلى الشمال، بسبب دبّاباتٍ إسرائيليةٍ في الطريق، ثم أبلغ زوجتَه أنه سيعود غداً. ولكن صواريخ معتديةً قصفت مبنىً في الحارة، وسقط شهداء، وأصابت بنايةً مُجاورةً فيها ثلّاجات، انفجر الغاز فيها، فسقط عمودُ باطونٍ ضخمٍ في المكان، سقط على نهال في بيتها، فقضت شهيدة... يوجز عاطف أبو سيف الحكاية في واحدةٍ من يوميّاته في الحرب. وفي الوُسع أن يستثير واحدُنا قريحته، ويتخيّل تفاصيل أخرى، مثلاً، عن مطبخ نهال في المنزل في مخيّم اللاجئين الذي نكبه المعتدون بنوباتٍ عديدةٍ عنيفةٍ من القصف في غضون حرب الإبادة الجارية، أجهزت على بيوتٍ كثيرةٍ فيه... ماذا كان في مطبخ نهال، وأطعمت أطفالها منه؟
مناسبة السؤال سؤالٌ طرحه الصحافي الإسرائيلي إيتان شيلم على واحدٍ من جنودٍ (احتياط) في جيش الاحتلال استباحوا بيوتَ غزّيين في الشمال، عمّا وجدوه في مطابخها التي استخدموها وأعدّوا فيها طعاماً لهم، فأجاب هذا إنهم وجَدوا في كل بيتٍ دخلوه توابلَ وبهاراتٍ متنوّعة، وكثيرا من الزيتون والعدس والبرتقال وغالونات زيت الزيتون ودبس الخرّوب، و... . أراد الصحافي في تقريره، في "هآرتس" التي نشرته في ركن الطبخ في نسختها العبرية (!)، أن "يعرّف" قرّاءَه بأمزجة الجنود الإسرائيليين وهم في المعركة بشأن ما يأكلون، وقد استرسل واحدٌ منهم في الحديثِ معه عن الأكلِ الذي أعدّه لزملائه في بيت أسرة فلسطينية مهجور، وأخبره قائد المجموعة المكلفة بالطهي: "كلّما تناولنا طعاماً جيّداً تمكّنّا من القتال بشكلٍ أفضل".
أعدّ هؤلاء الكاري الهندي والبروشيت والبان كيك، وشوهدت فيديوهاتٌ لهم وهم يصنعون طعامَهم، ثم يتناولونه مغتبطين في مطابخ مجهّزة جيّدا في بيوتٍ أنيقةٍ واسعة. أحدسُ أن فيها خيراً وأكلاً شهيّاً وأنفاساً طيّبة، كما الذي كان في مطبخ نهال المتقشّف، فثمّة بداهةً المُخزّن في فخّارياتٍ ومرطباناتٍ وغالونات، وثمّة، لا بدَّ، الزيتُ واللبنةُ والزيتون والزّعتر والسمّاق والمخلّلات وغيرها. ولئن يشيع عن المطبخ الفلسطيني غنى تنويعاتِه المنزلية، أيا كانت مستوياتُ بيوت الناس، فإن للمطبخ الغزّي أصنافُه ومذاقاتُه التي يختصّ بها. ولأن أولئك المعتدين جهلة، لن يعرفوا وظائف التوابل والزيت في كل بيتٍ في غزّة.
كان مدهشا لي أن زائرَنا، قبل أسابيع، الطبيب النرويجي مادس جلبرت (77 عاما)، في غداءٍ معه برفقة الصديق أنس أزرق، في مطعم فلسطيني في الدوحة، طلب، أول ما طلب، سلطة دقّة غزّاوية، وهي المؤلّفة من فلفلٍ أخضر حارّ وبندورة وبصل وملح وعين جرادة (عشبة) وعصير ليمون، وتُهيّأ بدقّها في فخّارٍ خاص. وهذا الرجل البديع ممتلئٌ بحبّ غزّة ونُصرة أهلها، وقد أقام بينهم طبيباً في مستشفى الشفاء في غضون اعتداءاتٍ سابقة. ولستُ أدّعي هنا درايةً بالأكلات الغزّية، وإن أعرفُ مكانة الفلفل الحارّ فيها، كما أعرفُ أنها تتجاور مع الشهير من المطبخ الفلسطيني في عمومه، القِدرة والمسخّن وورق العنب والمحاشي والمقلوبة أمثلة، ولا معرفة واسعة لديّ بتفاصيلِه وتمايزاته الريفيّة والفلاحيّة والبدويّة والمدينية. ما أعرفُه فقط أن ما يرتكبُه أولئك الهمج في منازل الغزّيين المشرّدين ومطابخهم سفالةٌ موصولةٌ بسرقاتهم من هذه المنازل، جواهر وما يشاءون (ألعاب أطفال مثلا).
جاء محمود درويش في "مأساة النرجس ملهاة الفضّة" على الذين "عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم/ .../ .../ .../ ويعلّقوا بسقوفهم بصلاً وباميةً وثوماً للشتاء". أحدِس أن نهال ربما علّقت في سقف بيتها في مخيّم جباليا بصلاًً وباميةً وثوماً للشتاء. ولمّا أبلغ ذلك الجندي الكريه الصحافي المتواطئ أن بعض المنازل المهجورة التي يطبخون فيها ستُهدَم، فهذا يؤكّد المؤكّد، أن الإسرائيلي يرى بيت الفلسطيني عدوّاً، فيستهدفُه بالقصف لذاتِه، للهدم، ليكون هو الآخر قتيلاً، بتعبير درويش أيضا الذي كتب في "أثر الفراشة" إن هذا البيت قتيلاً هو بترُ الأشياء عن علاقاتها، "بدقيقةٍ واحدةٍ/ .../ .../ تنكسرُ الصحونُ والملاعقُ والألعابُ والأسطواناتُ والحنفياتُ والأنابيبُ ومقابضُ الأبواب والثلاَّجة والغسّالة والمزهرياتُ ومرطبانات الزيتون والمخلّلات والمعلّباتُ، كما انكسر أصحابُها". و"...".
لنهال في مرقدِها ألفُ وردة، وللغُزاة اللصوص في مطابخ الغزّيين ألفُ بصقة.