الغموض الأميركي المفضوح

28 أكتوبر 2019
+ الخط -
هللت واشنطن للصفقة التي أبرمتها مع أنقرة بعد أيام قليلة من بدء عملية نبع السلام. وحاولت إدارة الرئيس دونالد ترامب تصوير الاتفاق كما لو كان انتصاراً على تركيا، أو كأن ترامب فرض إرادته على الرئيس التركي أردوغان، وأجبره على وقف العمليات العسكرية. بينما الحقيقة بعيدة تماماً عن ذلك، فقد كان ترامب على علم مسبق بالعملية التركية، ولعدة شهور سابقة، كانت المفاوضات جارية بين الجانبين حول "المنطقة الآمنة". وقبل بدء العمليات في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تمت مكالمة هاتفية بين أردوغان وترامب، سحب الأخير على إثرها الجنود الأميركيين الذين كانوا يعملون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لذلك، فإن اعتراض واشنطن على التدخل العسكري التركي، ثم فرض عقوبات عليها، كانا موقفين ظاهرين للتغطية على الموقف الأميركي الحقيقي، والذي يتلخص في قبول تام بالعملية التركية، كجزء من ترتيبات واشنطن للخروج من سورية، وتسليم مقاليد الأمور هناك لأطراف أخرى، يمكن الوثوق فيها وتوكيلها لضبط الأوضاع هناك.
وعلى الرغم من التهديدات التي قد تصاحب تلك العملية، وأخطرها ظهور الدواعش إلى الانتشار مجدّداً، إلا أن واشنطن لم تكن غافلة عن الأمر. ولو كانت واشنطن تخشى حقيقة فرار عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو عودة التنظيم إلى الساحة، لما انتظرت إلى حين دخول القوات التركية، ولنقلت سجناء "داعش" قبل العملية التركية. ولكن المعادلة، في المنظور الأميركي، تتلخص في السماح لأنقرة باستباق أي تحرّك كردي لتأسيس كيان مستقل، ودرء خطر وجود كيان كردي، عسكري أو سياسي، على حدودها مع سورية. بالإضافة إلى تأمين حصة لتركيا في مستقبل سورية، سواء على المستوى السياسي، بأن يكون لأنقرة مكان على طاولة المفاوضات الخاصة بالمستقبل السياسي السوري. أو ميدانياً بأن يكون لتركيا حضور فعلي على الأرض السورية. وهي خطوة لها أهميتها بالنسبة لأنقرة، خصوصاً في ظل استمرار خروج بعض المناطق السورية عن سيطرة دمشق. وفي المقابل، تتحمّل أنقرة مسؤولية المناطق التي ستسيطر عليها، ليصبح شمال شرقي سورية تحت الوصاية التركية، حتى وإن خفضت أنقرة حجم وجودها العسكري ونطاقه.
تدرك واشنطن جيداً أن تركيا لم تدخل إلى سورية لتخرج منها، لا فوراً ولا لاحقاً. وفي الحد الأقصى، ستحتفظ أنقرة بحدٍّ أدنى من الوجود العسكري الذي يتيح لها حماية "المنطقة الآمنة" وامتلاك القدرات اللوجستية والعملياتية اللازمة للعودة والاجتياح عند اللزوم.
ولا مجال للسؤال عن هذه الأريحية التي تتعامل بها واشنطن، ليس فقط تجاه "نبع السلام" لكن مع الوضع في سورية ككل. حيث تنطلق استراتيجية واشنطن في سورية من ثلاثة مرتكزات: ضمان عدم سيطرة الإسلاميين على سورية.. سواء "داعش"، أو جبهة النصرة، أو أي فصيل إسلامي أياً كان. تأمين حدود إسرائيل الشمالية، وضمان عدم ورود أي تهديد لها من سورية. ويرتبط بذلك، بالطبع، ألا تمثل إيران خطراً عليها من داخل سورية. الحرص على الحد من التدخل العسكري المباشر، وتخفيف أعباء الاقتصاد الأميركي في أي ملف، أو قضية خارجية..
إذن، لا توجد مصالح خاصة، ولا مخاوف أميركية، مرتبطة حصرياً بسورية.. وفي الواقع، ليس لدى إدارة ترامب أي تصور أو رؤية مسبقة لأي ملفٍّ في السياسة الخارجية، سوى توفير النفقات وحساب كل خطوة بثمن مادي (مالي) مباشر.
وبعد انتقادات حادّة لغموض واشنطن، أو بالأحرى لسلبيتها، قال ترامب إن واشنطن لن تحارب شريكاً لها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أجل حماية الأكراد. أما العقوبات الأميركية التي بدأت وانتهت سريعاً، والتصريحات الغاضبة، فليست سوى إشارات تذكير لتركيا بضبط سلوكها وتحجيم نطاق عملياتها العسكرية في سورية ونوعيتها، في الحدود المتفق عليها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.