16 نوفمبر 2024
العرب والكرد.. نقاش مشترك
لا يوصف مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يختتم أعماله في الدوحة اليوم الاثنين، "العرب والكرد.. المصالح والمخاوف والمشتركات"، بأنه حوارٌ عربيٌّ كردي، وإنْ يُعقد بمشاركة 40 باحثاً عربياً وكردياً بأوراقٍ علميةٍ وتحليلية، عدا عن غيرهم من الحضور والمساهمين بالنقاشات في جلساته. وذلك لأنهم جميعاً من النخب المثقفة والأكاديمية، وليسوا من أهل السياسة وصنّاعها وناشطيها، وإنْ من البديهي أن يكون للمشتغل بالبحث والدرس العلمي خياره وهواه السياسيان. ولكن، ليس هذا سبباً وحيداً لعدم وصف المؤتمر بأنه حوارٌ بين نخبتين من الكرد والعرب، وإنما لأن أغلب البحوث والأوراق في المؤتمر اعتنت بتفكيك العلاقة بين الكرد والعرب في الدولة العربية الحديثة، في سورية والعراق تحديداً، بالذهاب إلى التاريخيّ فيها، القريب والبعيد، مع مرورٍ على الراهن الساخن، والمقلق، بدا طفيفاً، أو ليس مركزياً، حيث لم يكن ممكناً إغفاله وإهماله، وعدم الإتيان على المشكلات العويصة القائمة في غضونه. ويمكن ردّ هذا الأمر إلى أن الباحث في علم السياسة يميل إلى قراءة ظواهر مستقرّة، ووقائع مكتملة إلى حدّ ما، غير أن في الوسع أن يُضاف، هنا، أنه يستحيل ترك مواريث الماضي في جلاء الحادث من تعقيدٍ عويصٍ في المسألة الكردية، في العراق وسورية (وتركيا)، وتبيّن تفاصيل التأزم والتجاذب والاضطراب، في علاقات السوريين الأكراد بأشقائهم السوريين العرب في الجغرافيا الواحدة المسمّاة الجمهورية العربية السورية، وكذا في علاقات أتراب هؤلاء بأتراب أولئك في جمهورية العراق.
اجتهدت أوراقٌ ممتازةٌ في المؤتمر في بسط كل المنظورات والمقاربات، التحليلية، في توصيف المصالح والمخاوف والمشتركات بين العرب والكرد، ولعلّ الخلاصة الأوفى والأهم في كثيرٍ مما سُمع في جلسات المنتدين أن "المسألة الكردية" ما صارت في المشرق العربي إلا نتاجاً للدولة التسلطية، وتظهيراً لنقصان مبدأ المواطنة في كنف هذه الدولة، غير أن هذا القول لا يصير نهائياً وحاسماً من دون الذهاب إلى أن مكابرة هذه الدولة، ومعها نخبٌ مثقفةٌ وقومويةٌ عروبوية، بشأن الاعتراف بالحقوق الثقافية والهوياتية لأبناء الوطن الكرد، كان من أسباب استعصاء المسألة/ الأزمة. ولا يستقيم التسليم بهذا القول من دون العبور إلى ما استجدّ في العقدين الأخيرين تقريباً من علوّ صوت الأكراد العراقيين والسوريين بشأن تنازعٍ على جغرافيا كردستان المشتهاة، إذ لم يعد كافياً التسليم بتلك الحقوق، وإنما صار مطلوباً منك أن تقرّ بأن "احتلالا" عربياً حدث لأرض هؤلاء الإخوة في الوطن المشترك. ولم يكن هذا الخطاب ليصير على النحو الذي نسمع ونراقب، إلا مع فشل الدولة القُطرية الوطنية العربية، واهترائها وتذرّرها، وانكشافها أمام عجزها المفضوح تنموياً واجتماعياً، وأمام تدخلات الأجنبي والخارج.
ولأن تمايزاً ظاهراً بين الحالتين الكرديتين في العراق وسورية، كان طبيعياً أن تتباين كيفيات تناولهما في المؤتمر، في الأوراق التي شارك بها دارسون من البلديْن، بل وربما أن تتباين مستويات القراءة والتحليل والتفكيك. وإذا كان هذا الجمع من أهل المعرفة والدرس التاريخي والسياسي من العرب، عدداً وتنوعاً، هو الأول في تعدديته ومستواه البحثي في مؤسسةٍ أكاديميةٍ عربيةٍ، فإنها ربما المرة الأولى التي يسمع فيها من نخبة كردية مثقفة حديثاً عن "حقوق وطنية كردية في الأرض"، وأن يُخاطَب المحللون السياسيون العرب بأن أكثريتهم "لا تستوعب مسألة الارتباط العاطفي بالوطن.."، على ما فعل الأستاذ الجامعي شيركو كرمانج، في ورقته، وعلى ما جاء لدى مشاركين آخرين، تكلموا من غير تحفظ، وتم النقاش الهادئ، المسؤول والعلمي، مع هذا كله وغيره. ومن مقارباتٍ ذات أهميةٍ استعراض الباحث في المركز العربي، حيدر سعيد، "المشكلة الكردية" باعتبارها، في منظور معيّن، مشكلة أقليات في إطار الدولة الأمة ذات الهوية الغالبة.
ويبقى مهماً أن يُصار إلى تعميم أبحاث المؤتمر المهم، وتيسير وصول الفاعلين السياسيين إليها، والإفادة منها في الخروج من خطاب التشنّج والتعصب المتبادل، ومن لغة الاتهام وسوء التفاهم المزمن، إلى تثمير المشتركات، والبناء عليها، في الذهاب إلى مشروعٍ وطنيٍّ ديمقراطي، هو أكثر ما تعوزُه سورية لإنقاذ نفسها، ولإقامة تفاهمٍ كرديٍّ عربيٍّ فيها ذي أفق آخر، مغايرٍ لمسار الاحتراب المشهود، والخراب المعلوم.