"العربي" في الستين

14 ديسمبر 2018

غلافا مجلة العربي في ديسمبر 1958 وديسمبر 2018

+ الخط -
يبعثُ على الإعجاب المستحقّ، وعلى إطراءٍ واجب، صمود مجلة العربي الكويتية في الصدور، منذ عددها الأول قبل ستين عاما، في ديسمبر/ كانون الأول 1958. (توقفت سبعة أشهر بعد الغزو العراقي بعد أغسطس/ آب 1990). هذا إنجازٌ ثقيل، ولا مجازفة في التخمين أن هذه المجلة، العروبية المنشأ والهوى، وحدَها من بين الدوريات العربية الشهرية عمّرت كل هذه العقود. وليس من قارئٍ عربيٍّ بالمطلق، سيما من هو بعد الثلاثين من عمره فما فوق، لم تنشأ بينه وبين هذه المجلة، المنوّعة الاهتمامات، صلةٌ، صداقةٌ وطيدة، أو تعارفٌ طويل، أو متابعةٌ متقطعة، أو مواظبةٌ على قراءتها. ولا يغامر واحدُنا في الزعم إن "العربي" ساهمت، بشكل أو بآخر، في تعريف الملايين من قرائها العرب، من المنامة إلى نواكشوط، في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته وثمانينيّاته (وشيءٍ من تسعينياته ربما)، بمدن وعواصم عربية وإسلامية عديدة، قبل أن تتّسع سبل المعرفة، ونعبر إلى زمن الفضائيات التلفزيونية، ثم فضاءات شبكة الإنترنت. وقبل أن تطرأ على الجيل الجديد ما يأخذ شبانه وفتيته إلى مشاغل أخرى، قد لا يكون في وسع مجلةٍ من لون "العربي" أن تجد لنفسها مطرحا بينها.
ولذلك، إذا صحّ القول (وهو صحيح) إن القائمين على المجلة العتيدة، والمقدّرة دائما، مطالبون باستكشاف أنجح وسائل الوصول إلى أفهام هؤلاء، ممن يقيمون على حساسياتٍ وأمزجةٍ أخرى، من طبائع الأمور وحقائق الدنيا أن تكون بعيدةً عما كان عليه سابقوهم، إذا صحّ هذا الصحيح، فإن "النقّ" الكثير فيه ليس محقّا، فليس في مقدور المجلات، وإنْ من طراز "العربي"، أن تكسب معارك على أكثر من جبهةٍ، أمام انحسارٍ عريضٍ للمقروء في الورق، وانتصارٍ مظفّرٍ للحواسيب والشاشات والهواتف الذكية. ويُحسب على أي حالٍ للمجلة الطيّبة السيرة أن القائمين على تحريرها استحدثوا فيها أقساما تتعلق بالجديد في هذا العالم السريع التطوّر، واستكتبوا أهل المعرفة فيه، وفي غيره. 

هناك، في دائرة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام فيما بعد) الكويتية، جرى التفكير، بدءا من عام 1956، بإصدار مجلةٍ، تكون هدية الكويت إلى كل العرب، وكان الداعم لإنزال هذه الفكرة حقيقةً قائمةً، مدير تلك الدائرة في حينه، أمير الكويت الآن، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح. ثم كان العدد الأول بعد عامين، يشتمل على تحقيقٍ، يحيّي جيش التحرير الجزائري، ويتضمن صور مقاتلاتٍ يحملن أسلحة ثقيلة، وعلى استطلاعٍ عن نخيل العراق. ولا تزيّد في القول إن استطلاعات "العربي" في مدن وعواصم ومناطق عربية (وإسلامية تاليا وعالمية لاحقا) عديدة، في المجلة الرائقة، لا تزال مصدرا طيبا لمعرفة بلادنا العربية، ولاستكشاف العالم، لما توفرت عليه كتابتُها من حذاقةٍ ومهنيةٍ عاليتين، ولجودة الصور الملوّنة المتقنة معها، وفي البال أن الثنائي المصري، سليم زبّال كاتبا وأوسكار متري مصوّرا، اسمان لا يجوز إغفالهما، في أي مبحثٍ يتقصّى هذا اللون من الاستطلاعات في صحافة الدوريات العربية. وإلى هذا الباب، المُحافَظ عليه في الأعوام الستين، ثمّة كتائب من أصحاب القلم، حضروا على صفحات "العربي"، وزاولوا تأثيرا ساحرا في مخيلات كثيرين ومداركهم، ومنهم من يقيم في مواقع طيبة في جوانح صاحب هذه الكلمات، يتقدّمهم العالم الذي لم يتكرّر، عبد المحسن صالح، والفيلسوف الأثير زكي نجيب محمود، وناقد السينما الفاروق عبد العزيز.
يكتب محمود السمرة (توفي قبل أيام)، في سيرته "إيقاع المدى.." (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006)، وكان من مؤسّسي "العربي"، وعمل، من 1958 إلى 1964، نائبا لأول رئيسٍ للتحرير فيها، أحمد زكي، وهو كاتب باب "كتاب الشهر" فيها سنوات، إن المجلة لم تكن تعتمد في مادتها على ما يصل إليها بالبريد، بل كانت هي التي تختار الموضوعات، وتختار من يكتب في الموضوع، وتحدّد له عدد كلمات المقال، والأمور التي تريده أن يكتب فيها... تلك أيامٌ، وهذه أيامٌ تستنجد فيها الزميلة الشاعرة سعدية مفرح بنداء "أنقذوا مجلة العربي"، لأسبابٍ تشرحها، أحدها أن المجلة العربية الأشهر التي كانت توزّع ربع مليون نسخة شهريا صارت تطبع نصف عدد النسخ المعتاد. وهنا، أجيز لنفسي القول إن العربي، الإنسان، أيضا، يحتاج إنقاذا.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.