العالم من دون أميركا
شخصيًّا، قلقٌ من رحيل القوات الأميركية عن منطقتنا. ويشاطرني القلق كلٌّ من أبي جهل وأبي رغال وتأبّط شرًّا، فالقضية لا تحتمل المزاح؛ لكونها وردت على لسان نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي للشرق الأوسط، دانا سترول، التي زارت المنطقة قبل أيام، وراحت تدلق سيلاً من التصريحات التي تهزّ البدن عن ترجيحاتٍ بمغادرة العسكر الأميركيين منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي طيّر النوم من عينيّ، وأدخلني في سلسلة من الكوابيس الوحشية حيال مستقبل المنطقة "من دون أميركا".
والحال أنّ تصريحات السيدة سترول جاءت في حوارات صحافية، كان واضحًا أنها معدّة مسبقًا، لتزييف مشاعر شعوب المنطقة بشأن الوجود العسكري الأميركي "المرحّب" به خلف ظهرانيهم، بدليل أنّ أحد الأسئلة الموجّهة إليها كان يحمل إجابته قبل أن تجيب سترول حتى، وجاء على النحو الآتي: "وردًّا على سؤال عن التخوفات من انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط أو الابتعاد عنها... قالت سترول إنّ هناك قلقًا في الإقليم، نعم فالولايات المتحدة ربما ستغادر المنطقة..."... فالسائل على ما يبدو كان على يقين لا يخامره شكّ بأنّ هناك "تخوّفات" من رحيل الولايات المتحدة، بينما أكّدت سعادتها هذه "التخوفات"، ما يذكّر بنظرية "اختراع الأزمة"، ليبدو المخترع "حلّال المشاكل" في أعين المخدوعين.
الأنكى أنّ مثل هذا السؤال لا يحمل إجابته فقط، بل ينطوي على نوع من الرجاء المبطّن لإبقاء القوات الأميركية في المنطقة، بل وربما تَسوُّل وجودها؛ لنكون أدقّ تعبيرًا، وهذا ما توخّته المسؤولة الأميركية فعليًّا، بدليل أنها في إجابة أخرى عن الوجود العسكري الأميركي في العراق، قالت إنه رهن بموافقة ساسة العراق عليها، فالقوات هناك تعمل تحت إمرة قيادة القوات العراقية، والهدف من وجودها المساعدة في جهود محاربة "داعش"... أي أنّ سعادتها تريد إقناعنا أنّ احتلالها بلدًا كاملًا، وتحطيم مقوّمات دولته، اقتصاديًا وعسكريًّا، وتفتيته سياسيًّا إلى كيانات ومحاصصات طائفية، مبعثها الحقيقيّ محاربة "داعش".
وعلى ذكر "داعش" التي تكرّر اسمها في المقابلة الصحافية المذكورة، على لسان سترول، عشرات المرّات، فيبدو أنها غدت "مسمار جحا" الذي تتكئ عليه أميركا لتسويغ وجودها العسكري في المنطقة، بدليل أنّ سترول فجّرت رقمًا صاعقًا عندما زعمت أنّ "داعش" متغلغلة في 80 دولة، ما يعني أنّ من حقّ أميركا فرض بسطارها على هذه الدول بذريعة محاربة "داعش"، على الرغم من أنّها "مشكلة مخترعة" من المخترع الأميركيّ نفسه؛ لأسباب يعلمها الراسخون في علوم احتلال الأقطار والأمصار، وإخضاعها لنفوذ الغُزاة والأشرار.
ويعرفها، كذلك، أبو رغال ومن لفّ لفه وجرى على مذهبه، من "الرغاليّين" الجدد، الذين يعتبرون وجود أميركا في المنطقة قضية وجودية بالنسبة إليهم، بعد أن اختاروا ربط مصائرهم بهذا الوجود، ويعرفون جيدًا أنّ رحيلها يعني رحيلهم، على الرغم من أنّ أميركا لن تعير ضئيل التفاتٍ إليهم لو سقطت عروشهم حتى وهي بينهم؛ لأنّ مسوّغات وجودها أعلى منهم ومن عروشهم، وأبعد ما يكون عن "داعش" أو "فاحش"، بل هو وجود تفرضه توازناتٌ دولية لا يدركونها، وهي لا تنتظر إذنًا منهم بالبقاء أو الرحيل، بل وجودها قسريّ لا يملكون حياله غير الخضوع والتبريك والتأهيل، وإخلاء البيت إن لزم الأمر.
ليتني كنت طرفًا في الحوار مع سترول، عندما لوّحت بالرحيل... لكنتُ تقافزتُ من ميناء إلى ميناء، ومن مطار إلى مطار، ومن محطّة قطار إلى محطة قطار، ملوّحًا بمنديلي القاطر دمعًا، متوسّلًا إليها أن تعود؛ لأنّها نسيت بيننا "أمانة" لم نعد نرغب بحملها أكثر مما حملناها، حقيبة طافحة بأبي رغال وأقرانه لتأخذهم معها.
وليت سترول تدرك أنّ غاية المنى لشعوب هذه المنطقة أن ترى مشهد المروحية الأميركية على سطح السفارة الأميركية في هانوي وهي تلمّ فلول العسكر الأميركيين الهاربين من فيتنام يتكرّر في عواصم العرب... عندها قد تفهم ما يعنيه مثلنا: "فراقكم عيد... ومع القلعة".