العالم في منتدى الدوحة
لمّا يتعافَ العالم تماماً بعدُ من "كوفيد – 19"، غير أنّ المطاعيم أدّت نتائجها الإيجابية، وأشباح الوباء انحسَرت كثيراً. وبذلك، صار في الوُسع أن يُعقد تجمّعٌ عالميٌّ حاشد، ينتدي فيه سياسيون في مواقع القرار وخبراء ومختصّون، بعد نبذ كورونا وراءنا، وبات ممكناً للدوحة أن تستعيد دورها الذي عهده العالم منها، في العقديْن الأخيريْن خصوصاً، عاصمة لقاءٍ وحوارٍ واحتكاك للأفكار. وبذلك، لا يتجاوز واحدُنا الحقيقة الظاهرة لو قال إنّ الجمع الكبير في الدورة العشرين لمنتدى الدوحة هو التظاهرة الأكبر في العالم بعد عامين مما فعله الفيروس في الكوكب. وأن يكون عنوانُه الرئيسي "التحوّل إلى عصر جديد" فذلك من بين دلائل ظاهرةٍ على التقاط القائمين على تنظيم المنتدى أنّ مستجدّاتٍ جوهريةً انعطافيةً، يمكن القول إنها كبرى وجوهرية، تنقلُ العالم من عصرٍ إلى عصر. وليست وحدَها جائحة كوفيد تسوّغ هذه القناعة، بما أحدثته من تغييراتٍ في تسيير الأفراد والمؤسسات أداءهم في غير شأن، وإنما أيضاً ما صارت تحدّياتٍ ثقيلةً تفرض نفسها على العالم، من قبيل الأمن السيبراني والأمن الغذائي وتغير المناخ والشعبويات و... إلخ. كما أنّ الجاري في أوكرانيا لا يمكن النظر إليه حرباً بين دولتين جارتين وحسب، وإنما حدثٌ ينبئ بتغييراتٍ تتجه إليها التحالفات الجيوسياسية، يتخفّف فيها العالم من قطبيةٍ معلومةٍ إلى تعدّديةٍ محتملة، مع ظهور قوىً اقتصادية وسياسية تهدّد المكانة التقليدية للولايات المتحدة التي صارت أحوالُها الداخلية تُنذر بتحدّيات انقساماتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ حادّة فيها.
اتصالاً بهذا المعطى، قال أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، في كلمته الافتتاحية للمنتدى، إنّ عالم اليوم وصل إلى مرحلةٍ مفصليةٍ تتطلّب مراجعاتٍ جذريةً، وعلينا أن نقف وقفةً جادّةً لتحديد مستقبل النظام الدولي. وبشأننا، مسلمين وعرباً، لعلها المرّة الوحيدة التي يجهر بها زعيمٌ عربيٌّ عن تهمة العداء للسامية باتت تُستخدم على نحو خاطئٍ ضد كلّ من ينتقد سياسات إسرائيل "الأمر الذي يضرّ بالصراع ضد العنصرية والعداء الفعلي للسامية". كما له بالغ الأهمية تأكيد الشيخ تميم، في هذا المحفل الدولي الكبير، التضامن مع الملايين من الأبرياء واللاجئين ضحايا الحرب غير العادلة والحسابات الجيوسياسية في أوكرانيا، مع تذكيره، في الوقت نفسه، "بالملايين من الفلسطينيين الذين عانوا ويعانون من الاحتلال الإسرائيلي والتجاهل الدولي منذ أكثر من سبعة عقود"، ومثلهم شعوب أخرى، كالسوري والأفغاني. والمؤكّد، في هذه اللحظة الخاصّة، حيث التمايز مُشاهَدٌ على الهواء مباشرةً على الشاشات، بين شعبٍ وآخر، أن العالم يجب أن يسمَع جيداً هذا، وأن يعلنه، بصريح العبارة، قادةُ المنطقة خصوصاً.
إلى هذا وذاك، وإلى حزمةٍ من أفكارٍ تداول فيها أكثر من مئتي متحدّث، دلّ تسليم الرئيس التنفيذي لصندوق المواطن الرقمي، الأفغانية رؤية محبوب، جائزة منتدى الدوحة 2022، على وفاء هذا المنتظم، العابر للمشاغل والأسئلة، لقيمه التي تحتفي بإنجازات الأفراد أو المؤسسات، عندما تتّصف بالتجدّد والابتكار والبناء. وعلى ما لمشاركة الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، الافتراضية، بكلمة في المنتدى، من أهميةٍ إعلامية، فإنّ التنوّع الواسع للقضايا التي جرى النقاش وعصف الأفكار فيها يبعث على الإعجاب بالإدارة الناجحة لأعمال المنتدى الذي شقّ لنفسِه مكانته الدولية بين منتدياتٍ عالميةٍ شهيرة، في دوراته العشرين، وراكم خبرةً في التنظيم الجيد، وفي الموازنة بين السياسي والإعلامي والأمني والاجتماعي والإنمائي .. والإنساني العام. ومن ذلك الاقترابُ من قضايا ظرفية راهنة، ليبيا والملف النووي الإيراني مثليْن، وكذلك الخوض في قضايا ذات صلة عميقة براهن الإنسان المعاصر، من قبيل النقاش في مساهمة المدن في الحلّ المناخي، ونماذج الأعمال في عصر ما بعد الجائحة، وكذا اقتصاديات الحرب (في اليمن خصوصاً!)، وثمّة قضايا اللاجئين السوريين والذكاء الاصطناعي والتضليل الإعلامي وتحوّلات الطاقة، وقضايا عديدة، اختير للحديث فيها فاعلون في شؤونها. ومن هنا كانت لها قيمتها المشاركات الحوارية لوزيري خارجية قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن، والسعودية، فيصل بن فرحان، ومبعوث الرئيس الأميركي لشؤون المناخ، جون كيري، ورئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، ووزير الخارجية التركي، مولود أوغلو، والمنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جوانا رونيكا، ووزيرة خارجية ليبيا، نجلاء المنقوش .. وغيرهم كثيرون ممن تقاطروا إلى الدوحة من كلّ أطراف العالم.