العائد إلى اللوز
لا يشعر حسين البرغوثي الآن بالألم. في مطلع كتابه "سأكون بين اللوز" يحكي الأديب الفلسطيني عن عودته إلى قريته كوبر في قضاء رام الله، بعد ثلاثين عاماً من الطواف حول العالم. "أرجعني إلى هنا مرضي بالسرطان، ووجع في أسفل الظهر مستمرّ إلى حد الملل".
روى الشاعر محمود درويش أن البرغوثي سدّد إليه قبل رحيله بأيام قليلة سؤالاً مدهشاً: هل الجماليّ في الشعر يحدّ من الرؤية؟ لم يمهله الزمن للرد. هكذا مات البرغوثي داخل الحصار، لكنه أيضاً "مات وهو يناقش".
قال البرغوثي لنفسه "حتى ولو بقيت لك سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين هناك". هكذا عاد باحثاً عن ذاته القديمة في "كل ورقة في الجنائن، كل نوارة بسوم صفراء، وكل نملة ونحلة وحشرة". لذلك ترك العلاج في مستشفيات بودابست في هنغاريا أو سياتل الأميركية ليُعالج في مستشفى في مدينة الرصيفة الأردنية، حيث يخنقه غياب الألوان، أو في مستشفى رام الله، حيث لا مكان له، فالدور العلوي للمواليد، والسفلي لحفظ جثث الموتى، والطوارئ تستقبل شهداء الانتفاضة ومصابيها. أما من لا يندرج تحت هذه التصنيفات فهو "شخصٌ زائد عن الحاجة، مريضٌ متطفلٌ يمشي نحو مصيره وحده".
يعدّ الكتاب امتداداً لكتابه "الضوء الأزرق"، حول أجزاء من سيرته الذاتية، خاصة بالفترة التي أمضاها في سياتل، لكنه كتاباته هذه، والتي جُمعت ونشرت بعد عامين من وفاته في 2002، تذهب بعيداً، من حيث موضوعها المتضمّن خليطاً نادراً من السيرة الذاتية، والهواجس الإنسانية، والنقاشات العامة، والأسئلة الفلسفية، والميثولوجيا والتاريخ، أو من حيث لغتها التي ينافس فيها النثر الشعر، ولعلي لا أقارنه إلا بقصائد الشاعر حلمي سالم "مدائح جلطة المخ".
يتشبث البرغوثي بعالم قد زال، فقد عاد يبحث عن "الدير الجوّاني"، وأساطير أسلاف أسرته، واللوز الذي زرعه أبوه لتقبل أسرة أمه زواجهما، لكنه يواجه حقيقة احتلال المستوطنات اليوم هذه التلال. لكن مستعمراً "جاء من روسيا أو أستونيا، ربما، قبل سنة فقط" حين يحدّق في الجبال ذاتها التي يحدّث فيها البرغوثي "لن يرى، حتماً، الأفعى الملوّنة التي تطير وتزغرد فوق الخرائب، ولن يسمع هذا الصوت الذي يبكي، ولا هذا السر الذي يجعل حتى مصاباً بالسرطان يمشي فيها في الواحدة ليلاً! لن يلمس التاريخ، ولو كان عرّافاً".
قال الرسام السويسري الألماني بول كلي: "الرسام لا يرسم المرئي، بل يجعله مرئياً". ويعلق البرغوثي: "والسرطان رسّام جعل اللا مرئيّ في عيني مرئياً، حين يلتقي الفن والحب والموت في الروح". يصف تدريجياً كيف يثقل جسده وتخفّ روحه، يتلقّى العلاج الكيميائي فيعجز عن المشي، وتتضخّم في عينه التفاصيل والأضواء. يبدأ الناس في معاملته بطريقةٍ مختلفةٍ إيجاباً أو سلبا، حتى إن زائراً خاف أن يلتقط برتقالةً في غرفته كأنها ستعديه.
يفكّر طويلاً في المستقبل بالمفهوم المادي، حيث يسعى إلى أن يترك لزوجته وطفلهما منزلاً، كما يفكّر في مستقبله بمعانٍ غير مادية، آملاً في أن يعود إليهما "إذا صدقت دورة التناسخ الأبدي هذه، حيث يرجع كل شيء، ولا شيء يرجع تماماً".
ورغم علمه التام بمؤشّرات نهايته، يسمعها من حنجرته وصدره، حيث تصدر "من أغوار الأودية أصواتٌ غريبةٌ ليست لإنسٍ ولا جان"، إلا أنه يتشبّث بكل أسباب الأمل، العلمية وغير العلمية. يتلقّى علاجه المعتمد حتى آخر لحظة، وفي الوقت ذاته، يقرّر تجربة لبن النوق.
هكذا عاد إلى "الجمال الذي تمت خيانته"، باحثاً عن الأمل في أفكار ابنه الطفولية، وفي إنجازاتٍ صغيرةٍ كصحن سلطة للأسرة .. يُحدّث نفسه: "وخطر ببالي أن بترا، زوجتي، ستنهار إن انهرت، "قاوم، لا لأجلك، قاوم". وشعرت بأن الجبل يهتف بي: قل لها، مهما حدث، إن زرتِني، سأكون بين اللوز! ستكون شمس، ويكون نوارٌ يتطاير في الهواء، وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل..".