الطنطورة .. الفيلم والمذبحة
ثمّة أرطالٌ من السذاجة ينبئ بها خبرٌ عن دعوة الخارجية الفلسطينية، قبل أيام، إلى "تشكيل لجنة تحقيقٍ دوليةٍ في الجرائم والمجازر الإسرائيلية في 1948" ليس فقط لأنّه ما هكذا تورَد الإبل، ولا لأنّ القائمين على هذه الخارجية جعلتهم كتابة صحيفة هآرتس العبرية عن فيلم الإسرائيلي، ألون شوارتس، "الطنطورة" الوثائقي، يفطنون إلى أنّ جهداً قانونياً دولياً يلزَم بشأن جرائم مهولةٍ اقترفتها دولة الاحتلال وعصابات الصهاينة، وإنّما لأنّ هؤلاء ربما افترضوا في أنفسهم أنّهم، في دعوتهم هذه، "يشيلون الزير من البير" فيما الحقيقيُّ أنّ أحداً لن يكترث بدعوتهم. ولكن، ها هم بعضٌ من أهالي شهداء المجزرة المروّعة في قرية الطنطورة في 1948 وذويهم يشكّلون، الأسبوع الماضي، لجنةً شعبيةً لمتابعة قضية القبور الجماعية، والبدء بخطواتٍ فعليةٍ لإلزام المؤسّسة الإسرائيلية بالاعتراف بجريمة اقتراف المجزرة، ومنحهم حقّ معرفة مكان دفن الضحايا، وقد وضعت اللجنة برنامج عملٍ لها. وثمّة موضعٌ لشيءٍ من العجب، أنّ الفيلم الذي أسهبت "هآرتس" في النشر عنه هو ما دفع إلى تشكيل اللجنة، فيما يصحّ السؤال (أو لا يصحّ؟) عمّ كان يمنع نشاطاً مجتمعياً مثل هذا قبل الكتابة عن الفيلم الذي لم يُشاهَد بشكل واسع بعد في دولة الاحتلال (متوقع عرضه الأسبوع المقبل في الإنترنت)، وتم عرضه، أخيراً، في مهرجان سينمائي في الولايات المتحدة، وانبنت تفاصيلُه، كما قرأنا، على أطروحة الماجستير التي قدّمها، في جامعة حيفا في 1998، الباحث تيودور كاتس، وأكّدت شهاداتٌ موثقةٌ فيها أنّ قوة إسرائيلية ارتكبت قتلاً في المدنيين، في الطنطورة، خارج المواجهات المسلحة مع مقاتلين فلسطينيين. ولعلّها مفارقةٌ أنّ صحافياً في معاريف "نبش"، في العام 2000، عن تلك الأطروحة الأكاديمية، فشكّلت الجامعة لجنة لإعادة فحصها، بعد دعوى تشهير، فقرّرت هذه رفضها، فيما كانت الأطروحة عند مناقشتها قد نالت امتيازا. وتالياً، تراجع كاتس عنها، وعما كتب و"كشف" فيها. وهذه مراجعةٌ صحافية في "هآرتس"، بعد 22 عاماً من بادرة "معاريف"، تُشعل القضية مجدّداً، على ضوء الفيلم، وتنقل منه أنّ ثمّة مقبرةً جماعيةً لنحو مائتي فلسطيني استشهدوا على شاطئ مدينة قيسارية، بسبب عمليات قتلٍ جماعيٍّ تعرّض لها الأهالي بعد استسلام الطنطورة التي خاضت معركةً مع الجنود الإسرائيليين المعتدين ليلة 23 مايو/ أيار 1948.
مؤكّدٌ أنّ لشهادات جنود إسرائيليين قدامى قيمتها، عندما يحسمون ارتكاب الجريمة (ثمّة أخرياتٌ لا تقل أهوالا)، إلا أن هذا لا يُحسب اعترافا إسرائيليا معلنا. والظاهر من متابعة الصحافة الإسرائيلية التي تضجّ، منذ أسبوع، بوفيرٍ من التعليقات والمتابعات لقضية الطنطورة وبشهادات متجدّدة عن المذبحة، بمناسبة الفيلم، أن النقاش محض إسرائيلي، ولا يُراد له أن يتجاوز صفته هذه، وإنْ بادر رئيس الحكومة الفلسطينية، محمد اشتية، في اجتماع رسمي، إلى إعلان مطلب التحقيق الدولي الذي صدعت به الخارجية الفلسطينية. ومما يثور في هذا النقاش وجوب أن يكون الإسرائيليون أكثر استعدادا للتداول في "الأحداث الصعبة" في تاريخ "الأمة الفتية"، بحسب تعبير مخرج الفيلم شوارتس، والذي يقول، من دون أن يغادر صهيونيته وإيمانه بدولة إسرائيل، وبلسان المجموع الإسرائيلي، "نحتاج إلى أن نكون حقيقيين وناضجين كمجتمع". وكان جدالٌ أشبه بالسجال قد ثار بشأن واقعة الطنطورة، لمّا استجدّت قضية أطروحة كاتس الجامعية، فمع إقرار مؤرّخين (وُصف بعضُهم بأنهم جدد) بأن ثمّة قتلا لمدنيين قد حدث، من دون تسميته مذبحةً أو مجزرة، قال الباحث المشهور، إيلان بابيه، إنّ الذي جرى في الطنطورة مذبحة، ولا تسمية له غيرها. وهذا المؤرّخ آدم راز، يكتب في "هآرتس" في 24 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) إنّ تحت موقف سياراتٍ في موقع استجمام على شاطئ البحر المتوسط في إسرائيل تم دفن ضحايا "إحدى المذابح البارزة في حرب الاستقلال". ولعلّ ما "يؤرّق" أهل التأريخ الإسرائيليين في أمر الطنطورة أنّ من ارتكبوا فعل القتل الجماعي كانوا جنوداً في جيش الدولة التي قامت للتو (قبل أسبوع) وليسوا أفراداً في عصابات صهيونية.
قال جندي إسرائيلي: "لقد وضعوهم في برميل، وأطلقوا النار عليهم فيه، أتذكّر الدم في البرميل .. ببساطة، لم يتصرّفوا كبشر في القرية". تُرى، هل يكون محمد اشتية في مستوى ما قال، وثمّة محكمة أممية في لاهاي؟ لنشاهد الفيلم، ونعيد قراءة رضوى عاشور "الطنطورية"، هذا أدعى من الإجابة عن سؤالٍ من لزوم ما يلزم كهذا.