الطريق إلى الانقلاب في تونس

11 يوليو 2022
+ الخط -

تتشابه تونس، دولةً، مع غيرها من الدول العربية في مقوّمات وخصائص كثيرة، إلا أنها، شعبا، تتفرد بخصائص تميّزها حتى عن بقية دول المغرب العربي، فالشعب التونسي يكاد يتفرّد من بين الشعوب العربية بالفكر المتحرّر والتفتح المجتمعي الذي لا تحدّه أطر سياسية ولا مرجعيات دينية. ويكاد المجتمع المدني التونسي يكون الأقوى بين نظرائه في الدول العربية، أو هو بالفعل كذلك.
ثمّة ميزة أخرى كبرى ربما هي الأهم في الحالة التونسية، أن تونس تحوّلت تدريجياً في العقود الأخيرة إلى دولة مدنيةٍ بامتياز، فعلى الرغم من غلبة الطابع الاستبدادي على حكم زين العابدين بن علي، كانت أدواته في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة مدنيةً أكثر منها عسكرية. حتى التغوّل الأمني لم يكن عسكرياً مكشوفاً، بل كان مغلّفاً بطابع مدني، فكانت للأجهزة الأمنية المنبثقة أصلاً من الشرطة والاستخبارات اليد الطولى في العمل الأمني، ولم يكن للمؤسّسة العسكرية حضور ظاهر في الحياة العامة. وربما لخلو القادة العسكريين من شخصية كاريزمية، أو ذات نزوع نحو السلطة السياسية، لم تكن للمؤسّسة العسكرية تطلعات سياسية أو طمع في السلطة. وهو ما تأكّد عند هروب بن علي، فلم تتدخّل المؤسسة العسكرية للقفز على الحكم.
منح هذا الوضع تونس ميزةً كبرى مقارنة بكل حالات الربيع العربي، فقد كانت دائماً الأكثر قابلية وأهلية لارتياد مسار ديمقراطي حقيقي، خصوصاً في وجود شعبٍ متعلّمٍ يملك وعياً سياسياً ذكياً ونزعة فكرية متحرّرة، وتنوع كبير في التيارات والقوى السياسية، وهي ميزاتٌ لأي شعبٍ آخر أن يحسُد التونسيين عليها.
وبالفعل، ظلت الحالة التونسية الأكثر تقدماً ونضجاً من بين كل الانتفاضات الشعبية التي اندلعت قبل عشر سنوات، وعرفت باسم "الربيع العربي"، فعلى الرغم من محاولات حركة النهضة (نسخة جماعة الإخوان المسلمين في تونس) احتكار السلطة، وتسخير المؤسسات والحياة السياسية لصالح توجّهات الحركة وأفكارها، إلا أن وعي الشعب التونسي وقوة المجتمع المدني حالا دون ذلك.
غير أنّ الأعوام الثلاثة الماضية شهدت تطوّرات مُريبة كانت تشير إلى أنّ ثمة تحولاً سيطرأ أو حدثاً كبيراً سيقع، فقد بدأت تونس تشهد اضطرابات اقتصادية، سببها الظاهري أزمة كورونا وما صاحبها من إغلاق وقيود عامة، بينما كانت، في حقيقتها، استغلالاً لمقتضيات الأزمة، وتضخيماً لوطأتها على التونسيين، بواسطة أدوات تونسية وأذرع لجهات خارجية تتربّص بالتجربة التونسية الفريدة، وتبيّت النية لإسقاطها، إذ هي آخر معاقل الربيع العربي، قبل أن تتحوّل من نموذج لحرية التعبير والوعي الشعبي إلى نموذج لأول تغيير حقيقي للواقع السياسي بإرادة شعبية كاملة وحرّة. فانتشرت في تونس الاضرابات الفئوية والمهنية، بدأت بالمرأة والحركات النسوية، وانتقلت بالتتابع إلى فئات أخرى. وكان الوضع الاقتصادي الضاغط مبرّراً ومظلة لرفع شعارات ومطالب غير ذات صلة. وشأن كل شعب عالمثالثي، لا بد من زعيم أو رمز يقود الحراك، ولو كان حراكاً للهدم لا للبناء، فظهرت فجأة عبير موسي التي لم تكن يوماً سياسية، ولا صلة لها بالعمل العام، فتحوّلت سريعاً إلى ناشطة حزبية، ثم إلى زعيمة سياسية، ومنها إلى رأس حربة للثورة المضادّة. ومن المفارقات أن موسي اختفت تماماً من المشهد بعد الانقلاب السياسي الذي قام به الرئيس قيس سعيّد، بعد أن أدّت دورها بامتياز، وأسهمت بقوة في إطاحة منظومة الحكم التي قادتها حركة النهضة. وهكذا دخلت تونس بنعومة، وبالتدريج في دوامة العودة إلى الديكتاتورية والخضوع للاستبداد، لكن بأدوات سياسية غير خشنةٍ تتسق مع طبيعة الشعب التونسي. ولذلك نجح قيس سعيّد في انقلابه السياسي، وها هو يطبُخ دستوراً يسهّل له الإجهاز سريعاً على ما بقي من ثورة تونس.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.