الصين في عينٍ خليجية
ليس دارجاً عندنا، إلّا فيما ندر، أن يكتُب سفراء بلداننا إلى البلدان الأجنبية الأخرى مُذكِّراتهم عن فترة عملهم ممثّلين لبلدانهم فيها، خاصةً بعد أن يتقاعدوا من عملهم، وتتيّسر لهم مساحةٌ من الحرّية في أن يحكوا بعض ما شاهدوه، ويدوّنوا انطباعاتهم عن الناس والمجتمع والعادات والتاريخ في البلدان التي عملوا فيها سفراء.
من هذه القلّة النادرة كان الدبلوماسي البحريني السابق حسين الصبّاغ الذي مثّل بلاده في أكثر من بلد، بينها لبنان وإيران والصين وتونس، كما عمل في بعثة بلاده في هيئة الأمم المتّحدة بنيويورك عدّة سنوات، وشرع في كتابة مُذكّراته، بصفته سفيراً، من خلال كتابين صدرا له، أحدهما عن فترة عمله سفيراً في طهران، والثاني عن سنوات عمله سفيراً في بكين، وهو الكتاب الذي نحن بصدد الوقوف هنا، ولو على عجل، أمامه.
بدأ الصبّاغ حياته وهو شابّ كاتباً في النقد الأدبي، ومهتمّاً بالشأن الثقافي، حيث يعدّ هو ومحمّد جابر الأنصاري، فضلاً عن عبد الرحمن الصوير، وهو مُعلّم فلسطيني قديم في مدارس البحرين، من أوائل من قدّموا قراءاتهم النقدية في النصوص الشعرية والقصصية المُبكّرة للأدباء البحرينيّين الشباب يومها، وغدوا اليوم مُخضرَمين، ولكنّ العمل الدبلوماسي سرعان ما أخذ الصبّاغ بعيداً من هذا الحقل، فما إن تقاعد من عمله، حتّى استيقظ عنده مُجدّداً هاجس الكتابة، من خلال توجّهه نحو تدوين يوميّاته سفيراً.
في كتابه "سفير عربي في الصين : يوميات ومشاهدات"، يطوف بنا المؤلف في عوالم الصين، تاريخاً وحاضراً، بعين مراقبٍ موضوعي، قُدّر له أن يعمل فيها سفيراً في السنوات التي تلت انعطافتها الاقتصادية المُهمّة، بحيث يصحّ أن نصفه بالشاهد على بدايات ذلك التحوّل، وبين ما يستوقفنا في شهادة الصبّاغ عن الصين ملاحظته تمسّك الصينيّين بتراثهم ورموز تاريخ بلادهم، التي صنعت هذا التاريخ، وحتّى لو اختلف بعضهم في الموقف والرؤية من بعض هذه الرموز، فذلك ليس مدعاة للتقليل من شأنهم، ويعطينا مثالاً على ذلك موقفهم من زعيم الصين التاريخي وصانع استقلالها، ماو تسي تونغ، ففي مقدّمة كتابه يلاحظ المُؤلّف أنّ كثيراً من الصينيّين المُقيمين خارج بلادهم يكنّون لماو كلّ احترام وإجلال رغم اختلافهم الكبير مع مبادئه وأفكاره الأيديولوجية، التي يصفها الكاتب بالمتشدّدة، فيكفيه فخراً، برأيهم، أنّه خلّص بلاده من الهيمنة الاستعمارية الأجنبية البغيضة، التي رزحت تحتها خلال القرنَين الـ19 والـ20، واتّجه بها اتجاهاً وطنيّاً خالصاً.
ولأنّنا اليوم نعيش أجواء الاستقطاب الصيني – الغربي، الأميركي منه على وجه الخصوص، يُرينا ما عاد إليه الكاتب من معطيات عن علاقة الصين بالغرب تاريخياً، جذورَ هذا الاستقطاب، فالغرب نظر دائماً بعين الريبة تجاه هذا البلد العظيم، من ناحية مساحته الكبيرة، وعدد سكّانه المهول، وتاريخه الذي يمتلك درجةً عاليةً من الخصوصية أنّى للغرب النرجسي المأخوذ بذاته أن يفهمها، فضلاً أن يأخذها على محمل الجَدّ.
من الصفحات التي يمكن وصفها سوداءَ في تاريخ علاقة الغرب بالصين، يقف بنا الصبّاغ عند ما عُرفت بـ"حرب الأفيون"، التي تورّطت فيها بريطانيا في الصين، حين أوصت بعثةٌ أرسلتها حكومة الملك البريطاني إلى بكين في القرن الـ18 بضرورة توسيع تجارة بريطانيا مع الصين، وكان الأفيون أكثر السلع ترويجاً من الإنكليز في صفوف الصينيين، ولم تنجُ من آثاره حتّى النُّخَب السياسية والعسكرية الصينية يومها، وعندما تنبّه الصينيّون إلى خطورة ما يجري، أصدرت حكومتهم قراراً بمنع تدخين الأفيون، لكنّ الحكومة البريطانية اعترضت على ذلك ووجّهت تحذيراً شديد اللهجة إلى الصين.
لم يستسلم الصينيون أمام الاعتراض البريطاني. قام ممثّل الإمبراطور، لين لسه شيوي، بحرق عشرين ألف صندوق من الأفيون عند الشواطئ، وأمام أنظار الصينيين، فأثار ذلك، بوصف الكاتب، "فضول الجميع ودهشتهم، بل استحسانهم وترحيبهم"، كأنّ الناس وجدت في تلك الخطوة ردّ الاعتبار لكرامتهم وكبريائهم.
لم يتوقّع الغرب يومها أنّ مراحل تطوّر الصين منذ استقلالها وقيام نظامها الاشتراكي، وانعاطفتها المدروسة والموزونة نحو اقتصاد السوق، ستجعل الصين قوّةً اقتصاديةً وازنةً في عالم اليوم، وأنجزت ذلك كلّه بعيداً عن الضجيج والاستعراض، حتّى إنّ السفير الصبّاغ لاحظ أنّ من قابلهم من مسؤولين هناك بحكم عمله كانوا يقولون إنّ الصين ما زالت بلداً نامياً وليس مُتقدّماً. إنّه التواضع الذي قادهم إلى المجد.