الصهيونية تعادل فقدان الأمل
تتحدّث تقارير إسرائيلية، وإن قليلة، عن هجرة شبّانٍ إسرائيليين عديدين إلى الخارج على خلفية الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزّة وما يرافقها من قصفٍ متبادل للنيران في الجبهة الشمالية وغيرها. وما زال من الصعب الاستدلال، بالاستناد إلى هذه التقارير، في ما إذا كانت تلك الهجرة بمثابة ظاهرة أم أنها في طريقها إلى أن تصبح كذلك. وتفيد بعض التقارير بأن هجرة الإسرائيليين إلى الخارج ليست جديدة تسبّبت بها الحرب فقط، بل بدأت قبلها بكثير، وفي إطارها مثلاً هاجرت أعداد غفيرة من الشبّان إلى برلين هرباً من الأجواء العامة التي تؤول إلى أزمات تترتّب عليها حروبٌ وتوتراتٌ أمنيّة دوريّة. وثمة تقارير ركّزت على ما هو جديد في هذه الهجرة من إسرائيل، فيها ما قد يتعيّن أن نتطرّق إليه. ومنها التقرير الذي نُشر قبل أيام في صحيفة هآرتس للكاتب الصحافي يوسي كلاين، وأشار فيه إلى أن هجرة أغلب الشبان هذه المرّة حدثت بعد أن أدّوا الخدمة العسكرية في تشكيلات الاحتياط وتم تسريحهم منها، مستنتجاً أن الهدف الأبعد هو التهرّب من احتمالات استدعائهم إلى هذه الخدمة مرّة أخرى، في ضوء التقدير السائد أن أمد الحرب سيطول. أمّا الدافع فهو الأهم برأيه، ويتمثّل في فقدان الأمل. ويكتب كلاين في هذا الصدد: يهاجر هؤلاء الشبّان، بحسب الانطباع الذي كوّنته من كلام معظمهم، بسبب انعدام الأمل، فهم باتوا غير مؤمنين بأنه سيظهر في يوم ما زعيمٌ في إسرائيل يضمن لهم مستقبلاً أفضل. والزعماء الإسرائيليون الحاليون يعدون بأن القتال الدائر في الوقت الحالي سوف يستمرّ وقتاً طويلاً، ويتساءل الشبّان المهاجرون عما إذا كان هذا الوقت هو الذي سيبنون فيه مستقبلهم، ولذا من الأفضل أن يكون هذا البناء بعيداً عن أجواء الحرب والتوترات الأمنية.
ويخلص كلاين إلى الاستنتاج التالي: ليس مبالغة القول إن هؤلاء الشبّان اكتشفوا، في خضم ما يحدُث الآن، أن بيتهم آيلٌ للسقوط، لأن أساساته هشّة والمواد التي بُني منها رديئة الصنع. كما اكتشفوا أن الآباء المؤسّسين باعوهم الأوهام فقط عندما زعموا أن الأساسات متينة والجدران قويّة. وأخيراً اكتشفوا أن الحديث لا يدور حول "كارثة طارئة"، في إشارة إلى عملية "طوفان الأقصى"، بل حول سيرورةٍ استحالت إلى صيرورة، وأن قباطنة البلد ضحّوا بهم بسهولة، ومن دون أدنى حساب لعواقب السياسة التي انتهجوها، في تلميحٍ إلى سياسة إسرائيل حيال قطاع غزّة وإزاء القضية الفلسطينية عموماً.
استنتاج كلاين هذا جزء من خلاصات عامة سابقة بشأن ما هو أعم وأشمل، ويرتبط بجوهر الحلّ الذي جاءت به الحركة الصهيونية لـ"المسألة اليهودية". وبدأ بطرحها في وقتٍ مبكّر المؤرّخ الإسرائيلي موشيه تسيمرمان، أحد روّاد البحث في التاريخ الألماني الحديث، حين أعلن في أواسط ديسمبر/ كانون الأول 2023 أن الصهيونية فشلت في توفير حلّ للمخاوف والحاجات الأساسية لليهود. وبرأيه، من المهم له بوصفه مؤرّخاً أن يشهد على أن عملية طوفان الأقصى كانت بمنزلة برهان على فشل الصهيونية وإسرائيل، لأن الفكرة الأساسية التي وقفت في صلب إقامة الدولة اليهودية كانت منع نشوء وضع مثل ذلك الذي يعيشه اليهودي في الدياسبورا. وفي ضوء ذلك، ما حدث يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول هو نقطة تحوّل في تقييم مدى نجاح الصهيونية، ونقطة تحوّل في الصراع الصهيوني مع الفلسطينيين.
ولا بُدّ من أضافة أن ما استنتجه تسيمرمان توصل إليه آخرون قبله، وفحواه أنه تحت وطأة الصهيونية وسياسة كيانها في فلسطين نشأ وضعٌ يعيش فيه الشعب اليهودي الذي في "صهيون" في حالة انعدام للأمن بشكلٍ شبه مطلق، من جهة. ومن جهةٍ أخرى، مثلما سبق أن نوّهنا، تتسبّب إسرائيل بإضعاف أمن اليهود في "الدياسبورا" بدلاً من أن تقوم بالعكس. ومن هنا الخلاصة أن الحلّ الصهيوني منقوصٌ ناهيك عن أنه يؤدّي إلى فقدان الأمل.