الصدارة في الأغنية العربية
ما الذي يجعل من ظاهرة فنية، غنائية على وجه الخصوص، متسيّدة ومتصدّرة في مرحلة ما، بحيث تلغي كل ما لا يشبهها وتهمّشه، وتعيده إلى الأنساق الخلفية، أو ما يجري اعتباره، في أحسن الأحوال، من الكلاسيك الذي نستعيد مُنتجه، ونستمع إليه بحنين، ونتحدث عنه بفخر (حتى صنّاع الأغنية بالمناسبة). ولكن من دون أن يخطر في بال أحد أن يحاذيه أو يستند إلى أدواته وجمله الموسيقية ومقاماته وآلاته ونمطه في الأغنية الحالية أو المعاصرة؟ سوف يجد الجواب حتماً في شكل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في كل مرحلة ما، وتأثير ذلك على المنتج الفني والغنائي المصاحب لهذه المرحلة أو تلك، كما سيجد الجواب في المتغيّرات والتقدّم التقني الذي غيّر شكل حياة البشر وإيقاعها.
يمكن للسائل أو الراغب في معرفة أسباب تحوّلات الأغنية العربية أن يجد إجابات شافية في كتاب الفنانة والباحثة الموسيقية المصرية فيروز كراوية "كل ده كان ليه. سردية نقدية عن الأغنية والصدارة" (دار ديوان، القاهرة، 2022)، بمراجعة فادي عبد الله وتحريره (غلاف ورسوم داخلية أحمد اللباد). والكتاب ستة فصول ترصد تاريخ الأغنية العربية، ومراحل تطوّرها، واختلافاتها منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى بدايات قرننا الحالي، وتمرّ على كل الظواهر الغنائية في كل هذه المدة، بدءاً من عصر العوالم وانتهاء بمرحلة الراب، وما تعرف بأغنية المهرجانات المنتشرة حالياً بشكل كبير. مارّة، بالطبع، على ظواهر غنائية بالغة الأهمية في مسيرة الغناء العربي، كالمسرح الغنائي، والطقاطيق التي ظهرت مع ظهور منيرة المهدية، وظاهرة أم كلثوم وملحنيها كزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وطبعاً من دون أن تنسى العبقري سيد درويش، المجدّد الأكبر، ثم محمد عبد الوهاب الذي أدخل قوالب جديدة على الموسيقى الشرقية؛ لتتابع بحثها الجميل والشائق، معرجة على نمط المرحلة المهمّة التي رصدتها فيروز كراوية، هي مرحلة الأغنية الناصرية، وتأثير ثورة العسكر على شكل الأغنية ومواضيعها بعنوان لافت لهذا الفصل من الكتاب "عندما تمسك الدولة بالميكروفون"، حيث اعتبرت أن ظهور الميكرفون القريب من فم المطرب في الحفلات، وخروجه من الإذاعة، إشارة إلى صوت الزعيم المختفي في صوت المطرب القادم غالباً من الطبقة الوسطى التي قامت على أكتافها ثورة العسكر في تلك الفترة، وقدّمت معها جيلاً من المطربين، ممن التفوا حول الثورة وحول جمال عبد الناصر، وقدّموا أغنياتٍ وطنية مجّدت الثورة وزعيمها، ليتمكّنوا بعدها من استخدام الميكرفون (الوطني) في تأدية أغنياتهم العاطفية بأداء رومانسي، كان رمزه الأول والأهم عبد الحليم حافظ.
ينتقل الكتاب إلى ما بعد نكسة 1967 التي أنهت ما تسمّى الأغنية الجماهيرية التي كرّستها ثورة يوليو، وأنهت ظاهرة عبد الحليم حافظ لصالح أغنية سياسية ناقدة بأداء وألحان تتناسب مع الهزيمة التي مُني بها العرب، وصولاً إلى مرحلة البوب العربي التي سبقها وجود مغنّين كحميد الشاعري وعمرو دياب، ثم محاولات لاستعادة الكلاسيكية الطربية العربية إلى عصر الفيديو كليب، وما رافقه من تغيّرات هائلة في نمط الأغنية، وصولاً، في النهاية، إلى دخول الإنترنت في الموسيقى والغناء، ليصبح هو النموذج السائد والمسيطر في وقتنا الحالي.
يأتي الكتاب أيضاً على أسباب تلك الظواهر، فتُعنى مساحة كبيرة في فصوله بتحليل الظواهر المرصودة، وتحليل أسباب نشوئها، ووجودها، وتميّزها، مراعية ربطها بالمتحوّلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع العربي، وتلاقي هذه المتحوّلات لدى أفراد أو مجموعات فنية بعينها، تمكنت من استغلالها والتفاعل معها، بما رأت أنه يتناسب مع مفاهيمها للفن ومنتجه، وهو ما ظهر واضحاً في الأغنية والموسيقى العربية بكل مراحلها.
ميزة كتاب فيروز كراوية الجدّية والرصانة في البحث، وذكر جميع مصادره ومراجعه، ثم المتعة في أسلوب العرض، فاللغة سلسة، والعرض التاريخي شائق. وتحضر الطرافة في غير فصل من فصوله وصفحاته. ثمّة ميزة أخرى للكتاب أن باحثته أنثى، وهو ما يمكن اعتباره استثناءً في عالمنا العربي، إذ نادراً ما ظهرت باحثة موسيقية تكتب بمنهجية علمية مترافقة مع أسلوب أدبي ممتع وشائق، يحكي عن تحوّرات الأغنية المتصدّرة أو "المينستريم" كما تسميها الباحثة، كما هو الحال مع "كل ده كان ليه".