الشعوب حين تقتل ذاكرتها
تحتاج الشعوب إلى ذاكرة كي تستند إليها في أحلك أيامها. لا يعني هذا العيش على الأطلال أو العودة بالشكل النوستالجي إلى الماضي والمكوث فيه. ما تحتاجه الشعوب عملياً هو الذاكرة المحفّزة التي تسمح بفهم كيفية إحياء مجتمعٍ يموت وقيادة نفسه إلى الخروج من أزماته. وعملياً، لا يمكن لشعب أن "ينقرض" إلا في حال رفض ممارسة فعل مقاومة غير عبثي. الألمان واليابانيون مثالان قريبان تاريخياً. سنغافورة وكوريا الجنوبية أيضاً. لكن على الرغم من عفويتها في لحظة الحدث التاريخي، إلا أن ثغرات الذاكرة تسمح بتضييق هامش تكرار خطأ ما في المستقبل. في المقابل، الذاكرة التي تتكرّر بتفاصيلها من دون تعديل، لا في سياق معالجة الأخطاء ولا في التطوير، تعني أن مطلق شعبٍ يتعمّد النسيان على قاعدتين: الكسل في استيلاد الحيلة، والعجلة في قبول أي حل. قد يكون صحيحاً أن مطلق شعبٍ يحتاج إلى قيادة، يصفها بعضهم بـ"النخبة"، ترسم الخطط وتطبقها. وصحيحٌ أن لا مكان للمثالية، لكن الصحيح أيضاً أن فرداً ومجتمعات لم ينجحوا في مسعاهم لأنهم "مثاليون"، بل لكونهم عملوا على إنجاح غالبية بنود خططهم.
وحتى تنجح أي خطة، فإنها في حاجةٍ إلى ذهنيةٍ تلائمها، لا إلى ذهنية رسخت فشلها بفعل غرسها في لاوعي مجتمعات كاملة، بحجج واهية. تريد الخروج من مأزقك، الفردي أو المجتمعي؟ عليك التفكير بطريقةٍ مغايرة لتفكيرك أمس، في حال كان الفشل رفيقك، والبدء بتغيير ذهنية التفكير ونمطه ونهجه. لا يمكن في لبنان، مثلاً، القبول بحل للأزمة المالية على طريقة التسوّل، بل معرفة مواردك واستغلالها، وإن انعدمت، عليك استنباط الأفكار، لا للبقاء على قيد الحياة فحسب، بل للخروج بذهنيةٍ تعشق الحياة، لا بعقلية "عايشين من قلّة الموت".
لا شيء سهلاً، ولا شيء يمكن الحصول عليه بكبسة زر. في برلين وطوكيو وسنغافورة وسيول يعرفون ذلك، لكنهم وضعوا خططاً وعملوا بصبرٍ. هل ينقص أي بلد عربي عقل أو خطة؟ لا ينقص أحد شيئاً، بل يحتاج للنظر إلى المرآة والقول لنفسه: "ليست هذه الحياة التي وُلدت لأجلها، بل سأسعى إلى تغييرها". وحين يدرك ذلك، يعلم هذا الإنسان أن الجواب عن هذا السؤال هو الفرق الوحيد بين الحياة والموت.
الشعوب العربية تحتاج النظر إلى المرآة لأن حقيقتها المنعكسة من الزجاج قادرة على إحداث صدمةٍ تسمح باستيلاد تجربة تملأ فراغ ذاكرة منقوصة. لا شيء يأتي سريعاً، بل الأمر أشبه بعملية بناء: كل شيء يبدو فوضوياً في الفترة الأولى، وبعدها تبدأ ركائز المبنى بالظهور، وصولاً إلى الغوص في مشاعر الفخر بعد الانتهاء من التشييد. وكما يحتاج كل مبنى إلى خطط تُنفّذ، تحتاج الشعوب والأفراد إلى خطط مماثلة. العفوية في سير أعمال مجتمع أشبه بحالة موت سريري. والتنظيم، بحكم كونه مبدأ كونيّاً، وحده القادر على توفير أبسط مبادئ الحياة لكل شخص.
مشكلتنا، نحن العرب، مع الذاكرة هو عدم التأقلم مع فكرة أن "الزمن الجميل" ولّى. لا ندري كيفية تعريف هذا "الزمن الجميل"، ولا نعرف كيف نخلق آخر مماثلاً، لأنه مبنيٌّ على عفوية، صودف أنها كانت جيدة لنا، نحن الشعوب. وحين اصطدمنا بحقيقة أن المصادفات ليست كلها جميلة، لم نعرف كيفية الخروج من القوقعة، بل غرقنا في يأسنا واستسلمنا لإحباطٍ لا ينفكّ يتنامى مع فجر كل يوم. نعتقد في لاوعينا أن الأزمنة الجميلة بعيدة ولن تعود، من دون الالتفات إلى واقع أن الجماد ليس قدراً، وأن موتنا الداخلي ليس حتمياً. نحن فقط صنعنا ذاكرة ميؤوساً منها، واعتبرنا أن "منطقة الأمان" الخاصة بنا تتمحور حول الترحّم على ماضٍ غابر. حسناً، الشمس تشرق كل يوم، والزمن لا يتوقف، والبشر كائنات متحرّكة في عقولها قبل أجسامها، ولا تحتاج الذاكرة إلى أكثر من هذا لتقتل جَمَادها.