الشعوب العربية والفلسفة
الفلسفة عادة ابنة المجتمعات بكل تفاصيلها الدينية واللادينية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وغيرها. فيها تتكتل عناصر التفكيك عن جزئيات الفرد والمجتمع. تنبع من أحداث ناعمة أو صادمة، لتضع مساراً فكرياً يشرح لاوعياً يغفله الوعي. صحيحٌ أن التوجهات الفكرية التي تلت مرحلة الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، ثم استنباط مدارس فكرية ناشئة من منظومات سياسية رسمت ثقافة عُدّت جديدة في زمنها، إلا أن الغريب أن مثل هذه المدارس لم تنشأ بعد في الدول العربية، بما يشبه عصفاً فكرياً لا يسمح فقط في وضع أنفسنا مكان "الآخر"، بل تضع نفسها بيننا وبين "الآخر". في لبنان مثلاً، يحلو التفكير في كيفية انبثاق فلسفة ما، يقرأها أو يشاهدها إنسان المستقبل. في غالب الظن، لن توجد مثل هذه المدرسة. كذلك في اليمن وسورية والعراق وليبيا والسودان، وكل وطنٍ يعاني من أزماتٍ كأنها صُنعت لأجله.
المفهوم الفلسفي عملياً حاجة لا بد منها، حتى لو ظنّ بعضهم أن الفلسفة غير ضرورية في عالم رأسمالي منظّم أو استهلاكي مدمر، لأن العكس هو ما يحصل، أي ولادة نظرية فلسفية من رحم الرأسمالية أو الاستهلاكية. إذا، ما الذي ستستولده الأفكار اللبنانية أو اليمنية أو الفلسطينية أو السورية أو غيرها من الدول العربية من فلسفة محدّدة؟ في الواقع إن الغد، الذي قد يكون بعد عقد أو 50 عاماً أو قرن كامل، سيحمل معه مجموعة نظريات فلسفية فارغة، قد لا ينطبق عليها مفهوم التطور المرتبط بالتقدم التقني أو الأدب أو الفن، بل سيكون ما سينتج فارغ المضمون، ولا يمكن البناء عليه. وأهمية الفلسفة هنا تكمن في وضعها أسسا لمستقبل مختلف بناء على ماض زاخر بالتجارب التصاعدية لا التنازلية. والتنازل أو العودة إلى المفاهيم الغرائزية في زمن يفترض أن يكون الوعي قد أوجد مساحة فكرية جدّية فيه، لن تسمح بديمومة أي مجتمع، سواء بقي الإطار القومي نفسه أو تبدّل.
لذلك، من الملّح أن تخرج الشعوب من الهامش العسكري لخلافاتها المتناسلة، والذي يحرمها من الاستفادة من الموارد المتاحة أمامها، على الرغم من محدوديتها، كي تسعى وراء تأمين ما ينقصها في سبيل إيجاد الركائز التي ستدفعها إلى تحرير العقل من الغرائز. لكن الواقعية المفرطة، بوصفها عنصرا يفرض الظلامية الفكرية، تبقى أقوى حتى إشعار آخر. هذه الواقعية بالذات لا تحرم المجتمعات من النموّ فحسب، بل تصيغ مجموعة من القواعد والقوانين، التي تدفعها إلى قبول الواقع الحالي كمسار حياتي لا يُمكن تغييره ولا نسفه لمصلحة مسار أكثر ميلاً إلى الإنسان الفرد والمجتمع.
الجوهر هنا أن الواقعية أسيرة المتطلبات اليومية التي لم تبلغ مرتبة "البديهيات" المفترض أن تكون مؤمّنة للناس، كحقٍ لها لا منّة من أحد. وليس صعباً تشارك معظم الشعوب العربية عناوين اجتماعية بديهية، قياساً على الزمن الذي بلغته البشرية. اليمني يريد خبزه والسوري أيضاً. اللبناني يريد طبابته والفلسطيني أيضاً. العراقي يريد تعليمه والليبي أيضاً. السوداني يريد أمانه الاجتماعي ومواطن جنوب السودان أيضاً. ومفهوم أن كل تغيير ينبثق من إطاحة نظام أو حكام أو منظومة تزيد الأوضاع سوءاً، ومفهوم أيضاً أن القدرة على ذلك أضعف انطلاقاً من قوة السلطات وعنفها، فضلاً عن أن أي تلاقٍ بين الشعوب في سبيل تأمين البديهيات بدأ يندثر لمصلحة خطابات عالمية، تشبه في بعض زواياها، خطابات عشية الحرب العالمية الثانية.
بالتالي، الفلسفة كنمط يُراد منه تغيير حياة الشعوب إلى الأفضل، على الرغم من بساطة العبارة وكثرة استهلاكها، أمر يمسّ في صميم نموّ الإنسان، ككائن واعٍ يبحث عن طموحاتٍ أكثر ويسعى إلى ترجمتها. وهنا المعضلة، هل ينجح إنساننا العربي في عكس مساره الحالي؟ طالما يحتلّ الخبز أولوية هذا الإنسان، وهذا حقه، فإن التغيير سيبقى بعيداً.