الشخصية الحقيقية للشاعر الكبير

في بداية عام 2011، وبالتحديد حينما بدأت الثورة الليبية، وبدأ نظام معمر القذافي بالفتك بالشعب الليبي الثائر، اعتصم ناشطون سوريون أمام السفارة الليبية في حي أبو رمانة في دمشق، كانت غالبيتهم من المثقفين والعاملين في مهن الفن والكتابة والإعلام من مختلف الأعمار. كان الهتاف الأول في الاعتصام هو "اللي بيقتل شعبه خاين"؛ في الاعتراض على ما كان يحدُث في ليبيا، وفي إحالة استشرافية لما سيحدُث في سورية بعد حين. وطبعا، كالعادة السورية، كان عناصر الأمن يحيطون الاعتصام وينتشرون في كل المنطقة. مضى اليوم الأول من دون صدامات مباشرة مع الأمن، لكن اليوم الثاني شهد عنفا متوقّعا إلى حدّ ما (خراطيم مياه وسحل للشباب والناشطين في الشوارع مع ضرب واعتقال بعضهم). أتذكّر أن ما حدث يومها جعلنا جميعا نخشى من ردّة فعل النظام فيما لو امتد الحراك الشعبي العربي إلى سورية. وكنا نقول في جلساتنا الخاصة إن عنف النظام سوف يكون الردّ الوحيد على الشعب فيما لو خطر لأحد القيام بمظاهرة ما على طريقة الأشقاء في تونس ومصر وليبيا.

لم يكن في وارد أحد منا على الإطلاق أن يصبح العنف جرائم غير مسبوقة، وأن يتطوّر الأمر ليصل إلى ما وصل إليه؛ فعلى ما يبدو أن سنوات التجريف المدني والسياسي للمجتمع السوري حدّت من آليات فهم بنية النظام، فلم يخطر في بال أحد، لا من المثقفين ولا السياسيين الناشطين في العمل المعارض في الداخل والخارج أن يجرؤ النظام على ما فعله، خصوصا بعد مصائر بن علي وحسني مبارك والقذّافي.

تذكّرت يومي الاعتصام هذين، وأنا أقرأ منشورا لشاعر سوري كبير، كان أحد المشاركين في الاعتصام أمام السفارة الليبية، يسمّي في منشوره القذّافي بالشهيد، ويرسل إلى "روحه المغدورة" السلام! وبالرغم من أن الشاعر إياه وقف ضد الثورة السورية، واتهم كل من طالب بتغيير النظام السوري بالعميل والخائن، وشتم المطالبين بالديمقراطية بوصفهم متأمركين ومتصهينين فهو عدو شرس لأميركا (الشر الأكبر)؛ وبالرغم من أنه لطالما مدح بوتين وقواته العسكرية ومجّد القصف الروسي للسوريين الذين يسمّيهم الإرهابيين، واتهم أخيرا حراك السويداء بالخيانة، إلا أن منشوره أخيرا عن ليبيا والقذافي يكشف جوانب شخصيته المؤدلجة التي لا ترى خارج يقينياتها أي شيء، والتي في حقيقتها تناصر الديكتاتوريات، حتى لو كانت سوابقها السلوكية معاكسة لهذا.

يأتي منشوره في سياق ما حدث لمدينة درنة بعد الإعصار المدمّر دانيال، فهو يتهم الثورة الليبية والحكومات بعدها بأنها لم تهتم بالبنية التحتية الليبية، ولذلك تتحمّل مسؤولية ضحايا الإعصار، بينما يبدو، في سياق منشوره، أن القذافي كان سوف يوقف الإعصار لو لم يغتاله الثوار والغرب؛ وهذا خطل كبير، ذلك أن أي حكومة ليبية، مهما كانت وطنية، سوف تحتاج سنوات طويلة لتعاود إعمار ما هدمته الحرب الليبية خلال السنوات العشر الماضية. ومن ناحية أخرى، لم تتأثّر البنية التحتية في درنة من الحرب، وما فيها من سوء هو نتاج نظام القذافي الذي يقول الليبيون إنه لم يحاول يوما تطوير البنية التحتية في عموم ليبيا، وأنها على ما هي عليه منذ أيام الاحتلال الإيطالي. كما أن الحرب الأهلية الليبية التي حدثت بعد سقوط القذافي هي أيضا نتيجة سياساته الاستبدادية، ذلك أنه عمل، خلال سنوات حكمه، على نسف هوية المواطنة الليبية لصالح الهويات القبلية والعشائرية الصغيرة، كما أنه ألغى كل ما يمهد لمدنيّة المجتمع الليبي لصالح القبلية والعسكرة والدين. لا يمكن في كلمات محدودة وصف ما فعله نظام القذافي في ليبيا، ولا الحديث عن نهبه المقدّرات الليبية، ولا عن الخراب الذي عمّمه في أرجاء البلاد، شأن كل الديكتاتوريات العسكرية في بلدان العالم الثالث، ولدى العرب على وجه الخصوص.

الخراب الذي يمجّده الشاعر السوري الكبير، والذي إن رآه فيراه بوصفه نتيجة تآمر دولة الشر الأكبر على بلداننا وحكامها (الوطنيين). وهنا يخطر لي السؤال: أيهما الشخصية الحقيقية لهذا الشاعر، التي شاركت في الاعتصام التضامني مع الشعب الليبي عام 2011 أم التي تمجّد القذّافي والأسد وبوتين عام 2023؟