الشخصية الانقلابية من منظور الانتقام
خرج الناس جميعاً في ثورة 25 يناير (كانون الثاني 2011) ضد حسني مبارك، من الصوفي الدرويش البسيط الأمي صاحب العمامة الخضراء وفرع الشجر، وبالطبع ليس خدم الطرق التابعين "لكشك مؤسسة النظام وصناديق نذوره" إلى عمّار الشريعي الموسيقار الكفيف، إلى "ابن الذوات" وحفيد الإقطاعيين والفنان اليساري جميل راتب، إلى شريف حتّاتة المثقف والمناضل اليساري، وهما على مشارف التسعين، مع شباب الأحياء الشعبية الغلابة، إلى السلفي، ليس الجهادي فقط، بل السلفي العامل البسيط والفلاح وبائع اللبن والتاجر، وصاحب محلات الأدوات الصحية. وبالطبع، لم يكن فيهم محمد حسّان، إلّا في الليلة التي سقط فيها النظام، ورأيته بأم عيني في ميدان التحرير، في حلّته البيضاء الزاهية، يبكي ويتباكى وينهنه قائلاً: "خافوا على بلادكم، يا شباب، خافوا على بلادكم، أوصيكم، بأيم الله". وبالطبع، لم يكن هناك أبداً محمد حسين يعقوب، ولا الدعاة الكاجوال كخالد الجندي، لأنه كان مشغولاً بسنترالاته في شارعي الهرم وفيصل. ولا عمرو خالد، لأنّه كان مشغولاً، هو الآخر، بتكوين حزبه، بأمر أمن الدولة، وإغلاقه وذوبانه أيضاً بأمر الأمن الوطني في ما بعد.
خرج الناس جميعاً ضد مبارك، فما الذي جعل كلّ هؤلاء، ليلاً، يهدون ثورتهم مرّة ثانية للمؤسسة التي قاموا بثورةٍ ضد رموزها الحاكمة والمتحكّمة في الظاهر والباطن وراح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف من خيرة شباب الوطن؟
سؤال شائك ومحيّر، لكنّ الإجابة عنه سهلة، وفقاً لمعطيات تفسيري لشخصيات تلك الرموز التي كانت في قمّة الثورة في يناير، ثم تحوّلت إلى قمة الثورة المضادّة والانقلابية العنيفة بعد سنتين فقط. نحن أمام مؤامرة محكمة جيداً في الخفاء بالترغيب والترهيب، صنعت من الشخصيات البارزة في الثورة، ومن قادة متكلميها وثوّارها ومثقفيها ومفكّريها، البطانة الأولى لتكفين الثورة ودفنها خلال سنة ونصف السنة ابتداء من "صناعة بنود الدستور" حتى إطلاق عيال الشوارع والمجرمين والبلطجية في الميادين والفنادق، حتى انتهى الحال بحرق الجمعية التاريخية. وكان ذلك أول نجاح باهر بأصابع السلطة الخفيّة المتحكّمة "للدولة العسكرية العميقة من 1952"، والثوّار معاً، في دقّ أول مسمار في نعش الثورة. بالطبع، تدفقت فلوس رجال الأعمال وقنواتهم الفضائية التي شمل عطفها وحنانها؛ من أحمد فؤاد نجم ورقصه في قنوات أبو العينين وساويرس وغيرهما، حتى استخدام الثّوار الفعليين مقدمي برامج ومخرجي نشرات، كما حدث لأحمد دومة وخالد البلشي والعشرات. هل كان هؤلاء يحسّون بأنّهم في طريقهم إلى ذبح الثورة؟ بالتأكيد نعم، وإلّا ما بدأت السلطة التي تدير الأمور ليلاً في حمايتهم، وفي ظلّ بركة وجودهم "المدني جداً" أمام الاتحادية، وغيرها "بالطوب والشوم والسنج والمطاوي والأسلحة أيضاً" وإلّا ما تحوّل بعضهم إلى أعضاء في المجالس النيابية، كزياد العليمي وغيره، أو الاستعانة بهم في لجان المجلس الأعلى للثقافة كأعضاء، كما حدث لأحمد دومة وغيره، باعتباره "شاعر عامية". وذلك كلّه بداية "لحقنة البنج العظيمة في 30/ 6" مع لحن "تسلم الأيادي" وبدأ الرقص المضادّ بالأمر والمزاج أيضاً.
هل تم انتقاء نفسياتٍ قابلةٍ لهذا التحوّل الانقلابي في طباعهم بذكاء؟ وهل تمّت دراسة ذلك جيداً خلال السنة ونصف السنة، هذه الآليات كيف تمت؟ وكيف تم إنجاحها؟ بالطبع، مؤسسة الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية والإعلام كانت في يد بقايا الدولة العميقة التي تدير الدفّة ليلاً، ومحمد مرسي في قصره أو شقته، وما يفعله نهاراً يهيل عليه الإعلام التراب ليلاً، ويتكفّل البلطجية بالهدم والهجوم على المؤسسات كافة من المستشفيات إلى آخره. بالطبع، لاحظ الثّوار أنّ الثورة المضادّة قادمة، فالتحق الأراذل منهم بقطار المصلحة، خوفاً على حياتهم، وهم بالطبع بالمئات. وانطلق المال الإماراتي والسعودي للمثقفين والإعلاميين والأندية الرياضية "لقتل الألتراس"، "كالرز"، وما زال تركي آل الشيخ، وأهل صنعته من موظفي الأندية والملحنين والمطربات ودور النشر، ينالون الرعاية نفسها والدفء و"الرزّ" في فنادق القاهرة وقصورها، وعلى المكشوف والمعلن، فهل بعد ذلك تقول إنّ صعوبة تُذكر كانت في تحويل ثورة قام بها شباب إلى خمود بعد سنتين من "الرزّ" في بلد "فقير أوي" وراتب الموظف لم يكمل الـ150 دولاراً، والأطهار في الثورة كانوا كالعشرات من غنمات جحا، وأغلب هؤلاء الأطهار إما ماتوا، أو هاجروا أو مرضوا أو في السجون. وصغار النفوس صاروا أعضاء في البرلمان، وصارت لهم كلاب أجنبية وفيلات ومصانع، ورقصت في أفراحهم يسرا أيضاً، بعدما أدّت واجبها في العزاء نهاراً.