الشاي الذي فوق النار

21 ديسمبر 2022

(Getty)

+ الخط -

مثل كل الوعود التي نسمعها ونصدّقها ونكتشف أنّها كانت حبال كذبٍ معلقة في الهواء، ومثل كل الأحلام التي يأتي عليها الصبح فتنجلي وتذوب مثل ذوبان قالب من الزبدة الشهي تحت أشعة الشمس، هكذا تذوب وتنتهي "عزومة المراكبية" كما يطلق عليها، وحيث اعتاد المراكبية (من يعملون في البحر ويجلسون على الشاطئ) استعداداً للإبحار أن يرحبوا بكلّ مارّ طريق وينادونه بقولهم: اتفضل الشاي على النار. وفي الحقيقة نارهم مطفأة على الأغلب، وحين توقد تكون لإعداد الشاي لهم. وقليلاً ما يصادف ذلك المارّ إبريقاً علاه الهباب الأسود فوق نارهم الضئيلة فيندسّ بينهم ويشرب كوباً لا طعم له ويواصل سيره.
هي تلك الحياة التي نستخلص منها مثل هذه الدروس، مثل إنك حين تقع في مشكلة هناك من يعرض عليك "عزومة مراكبية". وهناك من يقدّم لك معونة بسيطة لا تفيد، أو لا تكاد تترك أثرا، لكنّه يظل يتشدق بها أمامك ويذكّرك بها، مثل كوب الشاي المعدّ على نار المراكبية، والذي جرت إضافة الماء لأوراق الشاي مراراً وتكراراً، حتى فقد طعمه ولذّته، لكنّه ظل يوجّه دعوة عامة مفتوحة ومفخّخة مثل فكّي تمساح في بحيرة راكدة الماء.
يخطر الشاي الذي فوق النار ببالي كثيراً أمام الوعود والأكاذيب وخيبات الأمل من البشر، فأبتسم وأمضي. وقد خطر ببالي شاي المراكبية الوهمي مع الاحتفال باليوم العالمي للشاي. وحين تراجع أصول هذا المشروب تكتشف ما ارتبط به من أسرار وخفايا سلوكيات البشر وخبث نواياهم وما يعشّش بين الشعوب من تفرقة وظلم، فأصل الاحتفال بهذا المشروب هو في منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول، وتحتفل به البلاد الفقيرة المنتجة له، والتي تعتمد عليه بوصفه مصدر رزق لملايين الأسر، لأنه يساهم في توفير فرص العمل، وتمكين المرأة الريفية، وتحقيق الأمن الغذائي في هذه البلدان النامية. وقد اعتمدت الأمم المتحدة في 19 ديسمبر 2019 أن يكون الاحتفال بيوم الشاي في 21 مايو/ أيار. لكنّك تكتشف أن البلاد الفقيرة والمنتجة له تعتمد 15 ديسمبر يوماً عالمياً لمنتجها الأغلى، بقليل من البحث عبر "غوغل".
ربما تؤكّد ازدواجية الاحتفال باليوم العالمي للشاي ازدواجية معايير هذا العالم، والذي يستمتع بمشروب الشاي بكل ألوانه، وتُخصّص له الحفلات والجلسات، ويتناسى بغطرسة أنه يستمدّه من عرق الفقر وينبوع الفاقة وقلة الإمكانات ونقص الموارد وضعف الاهتمام بالعمّال والمزارعين وإهمالهم، لكنّهم رغم ذلك يستمرّون في العمل في مزارع الشاي بلا توقف ومنذ أزمان غابرة.
بالتعمّق في تاريخ شجرة الشاي، تكتشف أيضاً سيطرة التيار الديني وسطوته وكذبه وتلفيقه واستخفافه بعقول الشعوب، فالشاي، في بداية انتشاره مشروباً، كان مخصّصاً لرجال الدين، حيث وصل إلى اليابان من الصين عن طريق الكهنة والقوافل اليابانية في القرن السادس الميلادي، وأصبح مشروباً دينياً محرّماً على العامة، لأنّه كان اختراعاً جديداً اكتشفوا بالتدريج عظم فوائده، ولأنّ البشر، بطبعهم، ينظرون إلى ما في أيدي الآخرين، بذلت بريطانيا عن طريق الهند حيلاً جبارة لكي تحصل على أصل هذا المشروب، فقد سرقت الهند نبتة الشاي بطريقة محنكة، لكي لا يبقى مقتصراً على الصين، وبعد ذلك انتشر الشاي الهندي، وفقدت الصين سطوتها على زراعته.
وتتعمّق أكثر في أصل الشاي وأنت تحتسي كوبك الصباحي منه، وتكتشف أيضاً الخدع التي يلجأ لها المعلنون، حين يروّجون منتجاً واحداً بصور مختلفة، لأنّ أصل الشاي شجرة واحدة، فلا شاي أخضر ولا أحمر، لكنّ البيئة التي تزرع فيها الشجرة تتحكّم في لون أوراقها، لكنّنا ما زلنا نصدّق أكاذيب الإعلانات ونحب الشاي الأسود، بخاصة في الخامسة مساء، وحبذا لو كان مخلوطاً بالحليب، فنستمتع بمذاقه، ناسين أو غير عابئين بأنّ شرب شاي الساعة الخامسة والشاي المخلوط بالحليب من طبائع بريطانية أرستقراطية لأقدم دولة استعمارية.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.