السيسي... وكيف نطق جبل الطير؟
جبل الطير بلدة صغيرة تقع كلها شرق نهر النيل، مركز سمالوط في محافظة المنيا. لا توجد فيها زراعة ولا تجارة، سوى نخلة هنا أو شجرة هناك. كل صناعتهم هي الحجر للبناء ودَرَج السلالم، والبقية منهم في صناعة القبور وحراستها، سواء في "دير العدرا"، حيث نزلت السيدة مريم في رحلتها المقدسة جنوبا في تلك البقعة أياما، حيث المقابر الخاصة بالإخوة الأقباط وكنائسهم ومولدهم السنوي الذي يذبح له (المسلمون والأقباط معا)، وهو "مولد العدرا"، أو المقابر الخاصة بالمسلمين في الجهة البحرية التي فيها المصانع. ومعظمهم أيضا من الفقراء والبسطاء، كحال الإخوة الأقباط في الجهة القبلية من جبل الطير، إلى درجة أن أهل البلد (في سمالوط) يسمون الفقراء منهم "عيال الشرق"، لفقرهم، حتى بعدما جادت عليهم الطبيعة بأجود حجر جيري في العالم، بشهادة علماء الجيولوجيا عالميا في أبحاث عالمية مدوّنة في الجامعات العالمية، كما ذكر لي المترجم الراحل والجيولوجي أيضا، فخري لبيب، مترجم "رباعية داريل"، وقد مكث في تلك المنطقة سنوات. في ما بعد، كانت معظم التعيينات في المصانع من الأثرياء وعائلات عامر ومكادي وغيرهم من أبناء الحزب الوطني الديمقراطي وأحفاده من أيام أنور السادات حتى "مستقبل وطن" (فسيلة مايعة أيضا من فسائل الحزب الوطني، وبالعائلات السلطوية القديمة نفسها، كما كانت من خمسين سنة، وقبلها من أيام "الوفد"، كالشرايعة وغيرهم).
ما الذي حدث لقرية صغيرة ليس فيها سوى مصانع لغيرهم، وقبور تسد عين الشمس، وبعض مراكب تنقل حجر البناء ودرج السلالم إلى بقية البلدان. ولا نراها إلا في ساعة دفن الموتى؟ لم أكن أتوقع أنه، بعد ألف سنة، سوف تخرج مظاهرة في جبل الطير، وخصوصا بعد سلسلة القمع المضروبة على طول البلاد وعرضها من سبع سنوات؟ ما الجديد الغبي الذي حوّل قرية بسيطة وفقيرة إلى أول قرية في المحافظة تبادر بمواجهة السلطات؟ إنها عبقرية عبد الفتاح السيسي التي تفتقت لديه فجأة، وأمر، في قرار جمهوري، بإلغاء البناء ستة شهور. وجبل الطير ليس بلدا زراعيا، كي يحزن على هذا القرار، وإنما جبل مليء بالأحجار، والأحجار المنقولة بعد تقطيعها هي مصدر رزقهم الوحيد للعمّال هناك، فما العمل، والموتى من حولهم بلا جيوب ولا فلوس، والبناء متوقف، والوظائف في المصانع للعائلات الثرية أو المرتبطة خلال خمسين سنة بالحزب الوطني قديما، أو "مستقبل وطن" الآن؟ ليس أمامهم سوى البحر. وهذه عبقرية السيسي، أنه حوّل القرى الفقيرة، بقراراته غير المدروسة، إلى قرى ثورية فجأة.
هل ستتدحرج كرة الثلج الغاضبة إلى باقي قرى محافظة المنيا والصعيد الفقير والطارد لسكانه، أم سوف تمارس السلطة عنفها المعهود، وفتح سجونها الممتلئة أصلا لهؤلاء الفقراء؟ نحن أمام أيام قليلة آتية ستُظهر كيف يتعامل السيسي مع انتفاضة فقراء، لم يخرُجوا من مسجد أو كنيسة أو حزب أو إيديولوجيا أو إخوان مسلمين أو سلف، بل خرجوا فقط تقودُهم جلاليبهم وسخرياتهم، من رجل أدمن المؤتمرات التي يدعو فيها أولاد العائلات المستورة في شرم الشيخ (بالجِل والعطور والبدل المعدّة خصيصا)، كي يكونوا سنده في "تقفيل الصناديق" والرقص أمام اللجان، والغناء والعزف في مباني المحافظات، نظير التعيين في الشرطة أو الجيش أو النيابة وغيرها، فانفجر الفقراء بجلاليبهم والسباب.
هل ينجح السيسي في استيعاب هذا الغضب الذي له مبرّراته المعيشية، ويتخلى عن قوانينه في البناء والمصالحات (الجباية المعلنة)، أم سوف يستمر في صلفه، بعدما أثبت أنه لا يفهم مصر ولا أهلها، سوى بعض كلام مدهون بالسهوكة والزبدة في شرم الشيخ، يسيح نهارا بعد ما ينفضّ المؤتمر، ويعود الضيوف بالطائرات إلى بلدانهم، ويأخذ اللَّقطة التي سريعا ما تكشفها الكباري والطرق المنهارة أمام السيول أو حوادث القطارات؟
نحن أمام مأزق لرجل ظن أن "الفازلين والجل ومياه شرم وتحيا مصر ثلاث مرات" ممكن أن تجعله سعيدا على الكرسي، وها هو الكرسي يهتزّ من بسطاء في جبل الطير، لا معهم ماركس ولا معهم حسن البنا، ولا حتى السيدة العذراء إلا في أيام المولد. فقط تقودهم جلاليبهم إلى مطالبهم البسيطة. هل يفهم السيسي الرسالة، أم يظل في مكابراته التي استمرّت سنوات؟ في الأيام المقبلة نرى الإجابة.