السيدة سعاد تناديكم
لم تتعرّ السيدة سعاد وحدها، بل تعرّت معها دولة بأكملها. وحين صدر الخميس حكم ببراءة المتهمين بواقعة الاعتداء الطائفي عليها، كان الحكم يعني، في الوقت نفسه، إدانة كل الفاعلين غير المباشرين.
ترجع الأحداث إلى مايو/ أيار 2016، حين شهدت قرية الكرم في محافظة المنيا (المصرية) اعتداءاتٍ طائفيةً، بسبب شائعة عن علاقة عاطفية بين قبطي ومسلمة، وهو ما أدّى إلى استفزاز المشاعر الملتهبة والأعصاب المكشوفة دائماً. السيناريو مكرّر إلى حد الملل، لولا أن الإحراق والقتل ليسا فعلين مملّين مهما تكرّرا. توجه حشد من أسرة المسلمة مع من ناصرهم من أفراد القبيلة إلى منزل الشاب المسيحي، بحثاً عما يهدئ مشاعرهم التي لم يكفها، هذه المرة، إطلاق الهتافات الطائفية وإشعال النيران والتخريب على أساس الهوية.
فتحت الأم الباب، وأخبرتهم بغياب نجلها، لكنها لم تتخيّل ما حدث: "بهدلوني، حرقوا البيت، ودخلوا جابوني من جوه، ورموني قدّام البيت، وخلّعوني هدومي زي ما ولدتنى أمي.. مخلوش حاجة حتى ملابسي الداخلية، وأنا بصرخ وأبكي". مشت السيدة المسنّة عارية ثمانية أمتار في الشارع، حتى أنقذتها أسرة مسلمة أخرى.
تندرج تعرية نساء الأعداء في إطار ممارسةٍ شعبيةٍ مصرية، تهدف إلى كسر الخصوم وإذلالهم، يُفترض بمن يتعرّض لها أن يختفي أبد الدهر منكّس الرأس، فما بالنا، وهو أصلاً من طائفة الأقلية المتوقع منها الخضوع لطائفة السادة من دون نقاش، لكن السيدة سعاد لم تفعل. صمّمت على ملاحقة خصومها، حتى لو بقيت وحدها.
تم عقد "صلح عرفي" في القرية بوساطة شخصيات سياسية وأمنية محلية، وتنازل الأقباط أصحاب خمسة منازل تم إحراقها في الأحداث عن حقهم القانوني، وشهدوا بذلك أمام القضاء، بينما بقيت السيدة سعاد وحدها ترفض التنازل، كما رفضت مغادرة القرية كما فعلت عائلتها.
الأبطال الخارقون ليسوا فقط من يمكنهم الطيران في القصص الخيالية، بل أيضاً من يمكنهم النضال في القصص الواقعية خمس سنوات، بحثاً عن الحق والعدل.
في ثبات ملهم، خاضت السيدة سعاد مساراً قضائياً معقّداً، لم يؤثر في ثباتها عليه إخلاء سبيل 24 متهماً تم القبض عليهم سابقاً في قضية إحراق المنازل، قبل أن يصدر حكم غيابي بسجنهم، من دون أن تسعى الأجهزة الأمنية إلى القبض عليهم. لم يؤثر بثباتها أيضاً القبض على نجلها في قضية منفصلة بدعوى زنا، رفعها المتهم الرئيسي بواقعة تعريتها. لم تتراجع كذلك على الرغم من الوقائع العجيبة في قضيتها، فقد صدر الحكم غيابياً بالسجن عشر سنوات بتهمة "هتك العرض"، وتم القبض على الجناة، لتبدأ إعادة محاكمتهم حضورياً، فتنحّى القاضي بسبب "استشعار الحرج"، لتنتقل القضية إلى دائرة أخرى، هي من أصدرت حكم البراءة.
ثمة من "يستشعر الحرج" من العدالة لا من الظلم... هكذا تسقط عملياً شعارات "دولة القانون"، حين يثبت التطبيق المتكرّر انحياز مؤسسات الدولة، الأمنية والسياسية، إلى دولة الطوائف، لا دولة المواطنة، وإلى الجلسات العرفية، لا الأحكام القضائية. وهكذا تسقط عملياً ادعاءات مجتمعية حول "قيم الأسرة"، هذه القيم التي تهدّدها فتياتٌ رقصن طوعاً، بينما تشعر باطمئنان تام حين تتعرّى مسنّة قسراً! تُسجن فتياتٌ بسبب مقاطع فيديو، بينما يُطلق سراح من أحرقوا منازل واعتدوا على حرمات. يدّعون تأذي عيونهم من ملابس الفتيات الفاضحة في الشوارع، بينما تقرّ عيونهم تعرية مسنّة في الشارع.
كما يظهر أن "شرطة التعاطف" على مواقع التواصل لا ترى في الواقع إلا التعاطف مع قضاياهم السياسية وحدها، بينما يوزّعون هذا الاتهام نفسه بالضبط على خصومهم، بل يملك بعضهم وقاحة الشماتة الطائفية في الواقعة، لأن "الكنيسة أيّدت السيسي"!
من يجيب نداء "سيدة الكرْم" والكَرَم؟ أين الأجهزة الأمنية المهيبة حارسة "مؤسسات الدولة"، وأين أصحاب الدماء الحارّة من حرّاس "عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة"؟ هكذا يغدو المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والضحية ذليلاً والجاني رافع الرأس، لولا أن الضحية هذه المرة كانت السيدة سعاد التي لم تحنِ رأسها، بل رفعتها، ورفعت معها الغطاء عن كل هذا العفن.