السياسة من التلفزيون وإليه فقط
يتم الحوار الوطني فقط على أرضيّة تلفزيونية، حيث لا وجود لوجه أي خصمٍ أبداً، وحيث انتقال الكاميرا من وجهٍ باسم إلى وجهٍ غامز إلى وجهٍ يحاول جاهداً في مشروع ابتسامةٍ لا تكتمل أبداً، إلى وجهٍ سارح في انتقاء أية بلاغة، حينما يحين عليه الدور، فمتى يحين دور مجيء الخصم "أو غودو"؛ لا أحد يعرف أبداً ولا حتى قادة الحوار أنفسهم، ولا الكونترول نفسه.
نحن أمام فيلم غامض قد يستمرّ على نار هادئة لسنة ثانية في سرداب المونتاج، وهذه طبيعة الأفلام الغامضة التي لا ترى النور أبداً. وأخيراً قد يهرُب "المنتج"، بالماتيريال إلى جزيرة بعيدة ولا أحد يعرف عنها أي شيء.
واضحٌ أن السياسة أضيفت أخيراً إلى علم الكهانة والتنجيم، أو قد يجري مزجها بعلم اللاهوت وتدرّس في أقبية المعابد، وتغلق كل كليات السياسة والاقتصاد أو تحوّل إلى متاحف أو مزارات، فما لزوم الخصم إذن، وما لزوم الناس أصلاً طالما النهر يمشي والكواكب السيّارة تعرف شغلها ومداراتها، وكل رئيسٍ أعرف بشؤون دنيا بلادِه أكثر من الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والجان نفسه. أنت أمام الكاميرا، فلا ناس إلا أنت، فأنت المادح والممدوح، والخيط والبكرة، والضاحك ومن يضحك، أنت الجمهور والشاشة، وأنت المخرج والناقد، والقاضي والجلاد. ولا أحد يجب أن يُسمع إلا غيرك، حيث الهدوء في القاعة في غاية الهيبة، لأنه ملكوتك الأرضي وحدك، وما الشعب سوى الضيوف فوق الكراسي للتصفيق فقط لا للكلام، والجمهور في جلال المعبد لا بد أن يسكت ويستمع، ولا أحد يملك الكلام سوى أنت، والرؤية أنت صاحبها ولا يمتلكها في البلاد بطولها وعرضها سوى أنت، والنجوم وهي غاطسة هناك لك أنت، والهلال لك أنت وينظر لك أنت في انتظار كلامك، لأنك الطبيب الذي يصف الدواء ولا طبيب سوى أنت، والأزمة لا يشيلها سوى أنت، وأخطار الوطن لا تحدّق إلا فيك إلا أنت، وأنت وحدَك الذي شلت كفنك على يديك فأنقذت البلاد وحدَك، أنت الذي وحدَه يُمسك اللغز، وأنت وحدك القادر على فكّه، أما الشعب فليس هذا زمانهم، فزمانهم قد انتهى، فقط الاستماع بصمت للكلام، وفقط نرسل إليهم الصناديق، وما سوف نراه في الصناديق ستعلنه الكاميرا أمام عيون الشعب أمام غناء الفنانات، فهل يشكّ أحدٌ من الشعب في نيات الفن؟
ليست السياسة إدارة في اقطاعيات بعيداً عن أعين الشعوب وكأنها صفقاتٌ تتم بليلٍ لشعبٍ لا يعرف مصالحه، لأنه قصير الرؤية ولا يعرف ما خفي من المعلومات، ولا لما قال محمد عليه الصلاة والسلام: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". الغريب أنه بعد محمد صلى الله عليه وسلم بألف وأربعة قرون وسنوات، يرى الحاكم نفسه هذا القدّيس العارف الموكل بإدارة العالم بديلاً عن هذا الشعب العاجز، شعب لا يسمع أحداً غير صوت الحاكم فقط، وهذا هو الجنون بعينه.
صارت صورة الحاكم وهو يتكلّم أمام الكاميرا تشبه صورة القدّيس في المعبد، حيث الصمت المهيب من آلاف الحضور انتظارا للدّرر التي سوف تخرُج من فم القدّيس، لأنه موصولٌ ببركة السماء وعلوم الأرض من خمسين سنة، والحكم نفسه جرى درسه خلال هذه السنوات بالورقة والمسطرة والقلم والفرجار، وما على الشعب سوى الانتظار حتى يكتمل المُراد في 2030. هكذا الخطّة، وإلا سيفسُد كل شيء، فهل نستطيع، مثلاً، أن نغيّر الخبّازة، وهي أمام عين الفرن بخبّازة أخرى؟ إذن، سوف يفسُد العجين ولا تأكل الرعية.
السياسة عندنا سرّ مهيب لا يقدر على فكّ رموزه إلا أصحاب القداسة. أما الموظفون في بلاد الغرب الذين يحصلون على مدّتهم المحدّدة في الدستور ثم يعودون إلى درّاجاتهم أو جامعاتهم أو عدّة نجارتهم لصنع الكراسي، كما فعل كارتر، فهؤلاء لا يعرفون قداسة السياسة ولا الاستمرار في الكرسي المقدّس والدفاع عنه بكل الوسائل، حتى وإن لزم الأمر أن يشيل من تسوّل له نفسه بالاقتراب منه "أشيله من على وشّ الأرض".
هكذا السياسة، حتى وإن ظلت عائلة الأسد في الحكم نصف قرن وحسني مبارك ثلاثين سنة ومعمّرالقذافي أربعين وعلى عبد الله صالح ثلاثين. ولو عرف الشعب القداسة فعلاً، لظلوا جميعاً حتى قيام الساعة، لأن ما فعل بالرئيس الأميركي ترامب هو بمثابة عارٍ كوني ستظل أميركا تكفر من خلاله عن ذنوبها حتى قيام الساعة أو يعود ترامب إلى الكرسي، حتى تتواصل الكيمياء ما بين أقدم حضارة عرفت السياسة والقانون من سبعة آلاف سنة، وهي مصر، في شخص رئيسها مع أغنى دولة اقتصادياً وأقواها عسكرياً، وهي أميركا، لأن ما بين رئيس مصر وترامب "كيمياء معينة"، كما ذكر المفكّر السياسي عبد الحليم قنديل، فهل من المعقول أن تنهزم الكيمياء ما بين الرئيسين، ويخرج ترامب من معادلة القداسة تاركاً شريكه في الكيمياء وحيداً، فهل فسُدت الكيمياء أم فسُدت العناصر؟ وقد تكون تلك بداية انهيار الكون، والعياذ بالله.