السياسة المصرية وإكراهات الوضع الإقليمي
في تزامنٍ نادر، تواجه سياسة مصر الخارجية أزماتٍ على مدى حدود الجوار، وبينما يشكّل التهديد الأمني عاملاً مشتركاً، وهنا، تستكمل الحرب في السودان دائرة السخونة حول مصر، هي انعكاس لنضج الأزمات بسبب التأخّر الديمقراطي في كل من ليبيا والسودان، وانعدام الفرصة لتسوية عقلانية للمسألة الفلسطينية. وفي هذا السياق، تطرح مشكلة الأمن الإقليمي تحدّياً إضافياً لدخول العامل الإيراني طرفاً مباشراً في مشكلات عدة دول. وفي ظل الطبيعة الممتدّة لهذه الأزمات، تتراجع فرصة الحلول في المدى القريب. وتكمن أهمية النقاش في مدى قدرة السياسة المصرية على احتواء التداعيات أو المساهمة في التسويات الإقليمية وضبط الصراع.
وقد ناقش مقال للكاتب بعنوان "السياسة المصرية وسياقات التطبيع الإقليمي" (العربي الجديد 15/ 5/ 2021) اتجاهات الاستجابة للتغيرات الإقليمية. وبعد انخفاض موجة التطبيع، تواجه السياسة المصرية نوعاً من الإكراهات المستمرّة، حيث تفاقمت الأزمات الأمنية في النصف الأول من العام الجاري. وتمثلت في اندلاع الحرب في السودان في 15 إبريل/ نيسان الماضي، ثم شنّ إسرائيل حملة اغتيالات ضد حركة الجهاد الإسلامي، لتشعل حرباً على مدى ثلاث سنوات متتالية ضد قطاع غزّة، بالإضافة إلى جمود الحل السياسي في ليبيا وظهور مؤشّرات على انخراط بعض أطراف حكوماتها في أزمة السودان. وعلى المستوى الإقليمي، يتسبّب تأثير العامل الإيراني في تعميق الفراغ الأمني في كل من سورية واليمن، وبالتالي، يتوقف التقارب مع إيران عند البحث على توافر المنظور المشترك للأمن الإقليمي وخفض عوامل التهديد القريبة وفي المجال الحيوي المصري.
مشكلات الأمن الإقليمي
ولدى النظر إلى الأزمات السياسية، يمكن ملاحظة أن مصادر التهديد تجمع ما بين العناصر الأيديولوجية والسياسية، وهو ما يساهم في زيادة الأعباء الدائمة على الأمن الذاتي في أشكاله العسكرية، الأمنية والثقافية. وعلى الحدود الشرقية، تتّسم مصادر التهديد بالتباعد مع قيم المجتمع والدولة، حيث اختلاف القيم الدينية والثقافية. أما في حالتي ليبيا والسودان، فتظهر أنماط الصراع التقليدي، وتقتصر آثارها على انهيار الحكومات وهجرة السكان، وعادة ما تكون مصحوبةً باتساع نشاط حروب العصابات والإرهاب. وفي كل هذه الحالات، تقع دولة الجوار تحت سقف الأعباء المستمرّة لغياب الحكومات المركزية. في هذه الحالة، تواجه مصر أعباء غير متماثلة، ما يتطلّب تنوّعاً في السياسة الخارجية، يمكنها توفير حزمة أدوات مختلفة، سواء سلمية أو عسكرية.
مصادر التهديد على مصر تجمع ما بين العناصر الأيديولوجية والسياسية، وهو ما يساهم في زيادة الأعباء الدائمة على الأمن الذاتي في أشكاله العسكرية، الأمنية والثقافية
ولانقسام حكومات الجوار، ينتقل جزءٌ كبيرٌ من التداعيات تلقائياً إلى مصر، فالحكومات المحلية لا توفر الحد الأدنى لسلامة المؤسّسات. وفي ليبيا والسودان، يتصاعد نفوذ الجماعات غير الرسمية وتراجع آمال الوصول إلى الانتخابات. ساعدت هذه التركيبة على تعدّد أطراف التدخل الدولي وغياب مفهوم واضح للسلاح الشرعي، وخصوصاً بعد انسيابه في أيدي الجماعات المسلحة والأفراد. في مثل هذه الظروف، تكون استجابة المنظمات الإرهابية لمناطق التوتر سريعة ومرنة التنقّل عبر الحدود، ويتزايد خطرها بعد فترة قصيرة من اندلاع الحروب، لسهولة الحصول على السلاح وانشغال الحكومات المنقسمة بالصراعات المفتوحة.
ووفق منظور الأمن الإقليمي، يمثّل الوضع الإيراني في بعض البلدان العربية تهديداً أكثر منه مصلحة مشتركة، فاتخاذه أشكال الوجود العسكري والتغيير الديموغرافي، والولاء المذهبي، هو أشكالٌ لتباعد الترابط الأمني. ولذلك، يمكن النظر إلى انتشار النفوذ الإيراني تحدّياً للسياسة المصرية لارتباطه بمشكلات التكامل الوطني في اليمن وسورية والعراق، وتفكيك جيوشها لحساب الجماعات المسلحة. وفي هذا السياق، لا تقتصر سياسة إيران على الوجود العسكري في سورية والعراق، ولكنها تعمل على التغيير الديموغرافي والمذهبي، ويضع نشاط كلٍ من إيران وحزب الله وإسرائيل سورية تحت الاستنزاف المزدوج، وتقويض ما تبقّى من هيكل الدولة.
وبشكل عام، لا توفّر هذه السياقات البيئة الإقليمية والظروف المناسبة للاعتماد الأمني المتبادل، حيث تتراجع فرصة تجانس المصالح، وخصوصاً مع وجود منظوريْن مختلفيْن، بين الحفاظ على الذات والتوسيع، فبينما تتبنّى مصر معالجة التشوّهات التي طرأت على بلدان الأزمات، تعمل إيران على تغيير بنية النظام السياسي في كل من سورية واليمن (البحر الأحمر)، ومساندة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس. تبدو هذه التوجّهات غير متوافقة مع إعلان إيران عن رغبتها في استئناف العلاقات، فالخطاب الذي قدّمته، خلال الأيام الماضية، لم يشر إلى مبدأ حُسن النية تجاه الشواغل الأمنية لمصر، ما يجعله أقرب إلى حملةٍ دعائيةٍ بعيدةٍ عن مراجعة الترابط بين القومية والمذهبية في السياسة الخارجية.
العامل الدولي
ومن جانب البُعد الدولي، ظلّت مشكلة الدور الأجنبي مصدر قلق للمصالح المصرية، ولم تساعد القرارات الدولية أو العقوبات على حدوث تقدّم في معالجة الأزمات الإقليمية. وتذهب مصر إلى أن العقوبات تعمل على إضعاف الحكومات. وتميل العقوبات الأميركية الانتقائية، بشكل دائم، إلى كبح المؤسسات الشرعية. في حالة السودان، فرضت عقوباتٍ على قوات الاحتياطي المركزي (السودان) في مارس/ آذار 2022، ولكنها تركت "قوات الدعم السريع" على الرغم من توسّع انتهاكاتها ضد المدنيين في الخرطوم وغيرها من المدن. تساهم هذه الممارسات في إطلاق الفرصة للانتهاكات ضد الإنسانية. تتكرّر هذه التحيّزات في ليبيا والأراضي الفلسطينية لتعمل على بقاء المشكلات من دون حلول.
تواجه مصر أعباء غير متماثلة، ما يتطلّب تنوّعاً في السياسة الخارجية، يمكنها توفير حزمة أدوات مختلفة، سواء سلمية أو عسكرية
ومن وجهة تأثير العوامل الخارجية، تتشابه نشأة إسرائيل بوصفها حلا استعماريا لحل المسألة اليهودية مع كثافة التدخل الدولي في كلٍ من ليبيا والسودان، وذلك من وجهة قبول غالبية النخب عمليات تشكيل شبكات السلطة في كل من ليبيا والسودان. وتهدف البيانات المشتركة لدول أوروبا والولايات المتحدة إلى إبعاد البلدين عن إطار الأمن الإقليمي ووضع مواصفاتٍ لمستلمي السلطة، سواء من خلال انتخابات أو من خلال التوافق على مرحلة انتقالية. ويمثّل تفضيل تلك الدول صيغة محدّدة لقوانين الانتخابات الليبية والاتفاق الإطاري في السودان واحدةً من علامات التدخّل المُعزِّز للصراع. وتشير النتائج المرحلية إلى تماثل الفوضى، وتكلمها مع سعي المتنفذين في الحكومات المُقسمة في السودان وليبيا إلى التواصل مع إسرائيل. يفتح دخول تلك الأطراف دوائر النفوذ جبهة أمنية جديدة، ليس في ما يتعلق بتبّنيه مواقف مُعاكسة للمصالح المصرية فقط، ولكن في تصاعد مشكلات تكامل الحكومة الوطنية. وتكمن خطورة هذا التوجّه في التمهيد لارتباط عمليات التأسيس السياسي بالمتغيّر الإسرائيلي عقودا مقبلة، ولذلك، يتوقّف شكل العلاقة مع مصر على توجّهات المجموعات التي تصل إلى السلطة.
توجّه السياسة الخارجية
وباعتبار الطبيعة الممتدة لأزمات الجوار، تتوقف القدرة على البقاء ضمن الفاعلين الرئيسيين على التكيف مع مشكلات المحيط الجغرافي وتداعياتها الإقليمية. وفي هذا السياق، حاولت مصر تبنّي سياسة لاحتواء التوتر وامتصاص الأزمات الخارجية. ووفقاً لما يمكن تسميتها سياسة الأبراج الأمامية، اشتغلت السياسة الخارجية بتوطيد شبكة علاقات إقليمية لاحتواء الفجوات الأمنية في منطقة الشام، كما نشطت في ترتيب الظروف لدمج الحكومات الوطنية إقليمياً واستمرار شرعيّتها.
وبشكل عام، تًبدي مصر مرونةً في التعامل مع الأطراف الليبية، فخلال الفترة الماضية، قامت بمراجعة موقفها من حكومة الوحدة الوطنية، لكنها تواجه عيوب الانقسامات المؤسّسية وتعدّد مصادر التدخل الخارجي. وفي ظل التطوّرات السنوات الأخيرة، تساهم مصر في الإعداد للخروج من المرحلة الانتقالية، حيث تستضيف لجانا عديدة، بجانب مشاورات تشكيل حكومة جديدة. وذلك، وفق الحل الوطني، وأن تقتصر الجهود الدولية على الوساطة، وليس استبعاد المؤسّسات الوطنية. ولذلك، رفضت مقترح مبعوث الأمم المتحدة الخاص، عبدالله باتيلي، تشكيل لجنة رفيعة المستوى بديلة عن مجلس النواب، باعتبارها تجاوزا للحل الوطني.
يمكن النظر إلى انتشار النفوذ الإيراني تحدّياً للسياسة المصرية لارتباطه بمشكلات التكامل الوطني في اليمن وسورية والعراق
وفي حالة السودان، جاءت ورشة القاهرة، يناير/ كانون الثاني 2023، ضمن سياسة التموضع المصري في السياسة السودانية وتجاوز استبعادها من اللجنتين الثلاثية والرباعية. وعلى الرغم من تأخّر هذه الخطوة، فإنها فتحت الطريق لاتباع سياسة احتواء التدخل الدولي، والتأكيد على أن الأزمة شأن داخلي. ومع إشارة قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى مسؤولية مصر عن هجوم جوي، في حديث لإحدى القنوات الفضائية، اتّجهت مصر إلى البحث عن شريك إقليمي لديه الرغبة في الوساطة والحفاظ على الأمن الإقليمي.
ومنذ البداية، تلاقت مصر والسعودية على تنسيق المواقف بعيدا عن اللجنة الرباعية والمنظمّات الدولية، لخفض محاولات التأثير الدولية. وفي هذا السياق، اتّجهت تفضيلات البلدين الحل الإقليمي عبر جامعة الدول العربية وبمشاركة دول الجوار الأفريقية. ووفق القانون، تعتبر مصر "مجلس السيادة" السلطة الشرعية المعترف بها دولياً، غير أنها تجنّبت تعريف الدعم السريع حركة تمرد عسكرية باعتبارها جزءا من القوات النظامية، فمع استمرار الحرب، تتصاعد أهمية المعايير السياسية لفتح الطريق أمام وقف الحرب.
وعلى أية حال، يمثل التنسيق مع السعودية مرحلة أولية لبناء مواقف مشتركة من خلال مبادرات للحل السياسي وتجانس الوعي المشترك. وبجانب المبادرة السعودية ـ الأميركية، ساهمت الدولتان في وضع أفكار اجتماع عمّان، 1 مايو/ أيار 2023، الأساس لاحتواء الأزمة السورية وفق شروط وحدة الدولة، مكافحة الإرهاب وحل المشكلات الإنسانية وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة، بحيث تؤدّي إلى وقف استنزاف سورية من جانبي إسرائيل وإيران.
وساطة مصر المستمرة في فلسطين
وفي مستوى أخر، تكشف الحروب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة عن استقرار الدور المصري في توفير الحد الملائم لحماية القوى الفلسطينية، وبجانب مساهمة الوساطة في وقف إطلاق النار بعد أيام قليلة من دون أن تحقّق إسرائيل أهدافها، فقد طوّرت مصر حِزاماً فلسطينياً ضمن معادلة الحرب والسِلم. وخلال هذه المرحلة، تحوّل الاتصال السياسي مع حركتي فتح وحماس لدعم ظهير فلسطيني لديه القدرة على ردع إسرائيل. وفي ظل عدم تأهيل السلطة الفلسطينية لرعاية مشروع الدولة، تظلّ الحركات الفلسطينية، على ضعفها، الحدّ الأخير لوقفت تقدّم إسرائيل.
ظهرت جدارة الوساطة المصرية في خفض تشدّد حكومة نتنياهو، وإقناع الحركات الفلسطينية بجدوى دورها
وفي العدوان أخيرا على قطاع غزّة، 9 مايو/ أيار 2023، ظهرت جدارة الوساطة المصرية في خفض تشدّد حكومة نتنياهو، وإقناع الحركات الفلسطينية بجدوى دورها، وخصوصاً مع دخول إسرائيل في حرب استنزاف، تزيد من أعباء مشكلات الانتقال من الكيان إلى الدولة الواضحة الحدود، فهناك عيوب أساسية، في مقدمتها تضاؤل فرصة الوصول إلى الدولة اليهودية وفشل محاولات الاندماج الأمني الإقليمي، بالإضافة إلى ثبات الثقافة السياسية للشعوب العربية ضد الاستعمار الاستيطاني. وفي ظل هذه الخصائص، لا يُقدّم توسيع الاستيطان حلاً لمشكلات الدولة، ليس بسبب مستوى الاعتراف الدولي بقدر ارتباطه بالمشكلة الديموغرافية. ويمكن قراءة إخفاق إسرائيل في تحقيق أهداف الحروب ضد قطاع غزّة مؤشّراً على نقص الإمكانات الجيواستراتيجية لشغل التوسّع الأرضي.
وبشكل عام، ترتبط فاعلية السياسة الخارجية بمدى تحسين القدرات الذاتية. وهنا، تمكن الإشارة إلى جانبين: يتمثل الأول في دور التجانس والوعي الثقافي في احتواء فجوات الأمن الإقليمي واستيعاب هجرة السكان بسبب الأزمات الداخلية في ليبيا والسودان وسورية، حيث يوفّر النمط الثقافي والروابط الاجتماعية راحة لعملية صنع القرار وتوسيع الديبلوماسية العامة، لتكون مساندةً للسياسات الرسمية. فخلال هذه الأزمات، تحسّنت الصورة الذهنية مع عبور المهاجرين الحدود، بالإضافة إلى الدعم المفتوح للقضية الفلسطينية. أما الجانب الثاني، حيث يساهم برنامج تسليح الجيش وتوسيع نطاق العلاقات الخارجية، في تأمين القوة اللازمة للتفاعل الإقليمي والتحوّط لتداعيات الأزمات الإقليمية، من دون التحكّم في مسارها، لتعدّد أطراف التدخّل الدولي.