السوريون و"كورونا اخرطي"
كان اللاجئان السوريان، أحمد ومصطفى، يشربان الشاي، برفقة جارهما الألماني، أندرياس، في أحد مقاهي برلين، حينما عبر أمام زجاج المقهى بنات وشبان يحملون لافتاتٍ تندّد بإجراءات الوقاية من وباء كورونا (كوفيد 19). لاحظ أندرياس أن صديقيه السوريين يتبادلان عبارات بالعربية، تدل على استخفافهما بالمظاهرة، فتدخل في الحديث، وقال إنه لولا بعض الآلام في عموده الفقري لكان في طليعة المتظاهرين. وأوضح لهما أن هذه الاحتجاجات محقّة، لأن إجراءات العزل والحجر وارتداء الكمّامات عدوان صريح على حرية الإنسان، وهي ليست شأناً ألمانياً خالصاً، بل تكاد أن تعمّ دول أوروبا، فالناس أصبحوا قلقين من أن تلجأ الحكومات إلى تكرار الإجراءات التي طبقتها في أثناء معالجة الموجة الأولى من الوباء قبل بضعة أشهر.
قال أحمد، وهو يخفي ابتسامة ظهرت على فمه، إنه وصديقه مصطفى يعتذران، بداية، عن تحدّثهما بالعربية في حضوره. أما الحديث الذي تبادلاه، فلا داعي لأن يعرف محتواه. استفسر أندرياس عن السبب، فأجابه مصطفى، بطريقةٍ لا تخلو من دعابة: "إن الكلام على ما يجري في سورية فوق مقدرتك على الفهم والاستيعاب". لاحظ أحمد استياء أندرياس مما قاله مصطفى، فسارع إلى التوضيح، قائلاً: "إن كورونا التي تصيبكم، أنتم شعوب أوروبا، هي نفسها التي ظهرت في الصين بداية سنة 2020. وأما كورونا السورية، فقد أطلقنا عليها، نحن السوريين، اسم "كورونا اخرطي"".
حاول أندرياس لفظ كلمة اخرطي، فكاد حنكه أن "ينفشخ". ضحك مصطفى، وأوضح لأندرياس أن هذه الكلمة تقال للتعجب والاستهزاء، وقصّ عليه حكاية قرية سورية غزتها، في زمن قديم، مجموعة من الصعاليك. جمع الغزاةُ رجالَ القرية في ساحة عامة، وقال أحدهم إن الغرامة المفروضة على أهل القرية عشرون قنطاراً من القمح، وعشرة قناطير شعير، وستة قناطير عدس، فهتف أحدهم متعجّباً: "اخرطي"، فركض الصعلوك، ووضع البارودة في رأسه، وسأله عن معنى كلمة اخرطي، فخاف الرجل، وأراد أن يموّه، قال إنها حلوى تصنع من الجوز واللوز ودبس العنب، فقال الصعلوك: وعليكم قنطار اخرطي!
العبرة من الحكاية، كما قال مصطفى، أن أية مقارنة بيننا وبينكم ستبدو مضحكة، فإجراءات منع التجول التي فرضت عليكم شهرين، فقط، كانت تفرض على السوريين، أيام الانقلابات، بعد إذاعة البلاغ رقم واحد وحتى إشعار آخر. وأما إجراءات التباعد الاجتماعي، فكانت السمة الأساسية لحكم حافظ الأسد وسلالته منذ سنة 1970، فجلسة مثل جلستنا هذه، مثلاً، لا بد أن يرصدها عنصر الأمن المناوب في المقهى، أو أي مخبر متطوّع، وتسجل وقائعها وتنسخ على ثلاث نسخ، وتودَع في فيش كل منا. لم يفهم أندرياس معنى الفيش، فسارع أحمد إلى توضيح مفهوم الفيش الأمني وعمليات التفييش، وقال إن المواطن الأوروبي ممكن أن يسمع بهذه الإجراءات فيحسدنا، لأننا نطبق أصول التباعد الاجتماعي التي تقي من جميع الأمراض منذ خمسين سنة. ولكننا نحن، بالتزامن مع إجراءات التباعد، كنا نخرج ونمشي حاملين اللافتات، بالألوف، ومئات الألوف، والملايين.
استغل أندرياس الفرصة، وقال لصديقيه: "عال، يعني تخرجون في مظاهرات". فردّ عليه أحمد، موضحاً أن مظاهرة كهذه لا بد أن يُطلق عليها الرجال الساهرون على أمن الوطن والمواطن الرصاصَ الحيّ، فيقتل بضعة أشخاص، ويهرب الباقون، وفي اليوم التالي، حينما يحمل الأهالي جثث أبنائهم المقتولين إلى المقبرة، ليدفنوهم، تُغير عليهم طائرة من سلاح الجو السوري الباسل، وتقتل عدداً آخر منهم! عرك أندرياس عينيه، وقال لصديقيه إنهما، بصراحة، يقولان كلاماً متناقضاً، "فقبل قليل قلتما: إننا نخرج إلى الشارع، حاملين اللافتات والأعلام"، فردّ عليه أحمد: "إن هذا صحيح، نحن نخرج، ولكن ضمن مسيرات تأييدٍ للشخص الذي يأمر بقتلنا. لا نكتفي بأن نخرج، بل نهتف، ونُعَيّش، وندبك حتى تنفتق بنطلوناتنا من الخلف!".