السودانيون وسط مشكلات الانتقال السياسي
دخل السودان، منذ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، مرحلة ثانية من أزمة الانتقال السياسي، لم تتوقّف تطوراتها على انقسام حلفاء حراك ديسمبر 2018، ولكنها أثارت خلافاتٍ كثيرة على الترتيب لمرحلة انتقالية جديدة. وخلال عدة مسارات تحضيرية، جرت مناقشاتٌ لتطوير الوثائق السياسية، دارت حول إعادة ترتيب العلاقات العسكرية والمدنية أرضيةً لتشكيل حكومة محايدة وواسعة الصلاحيات. وعلى الرغم من أهمية ظهور مسوّدات جديدة أو تحديث اتفاقات سابقة، يواجه الانتقال السياسي معضلتي الاندماج الوطني وتعدّد مصادر الدخول الخارجي على الفواعل السودانية، لا ينصبّ التناول على المقارنة ما بين المقترحات المختلفة بقدر ما يسعى إلى استكشاف مدى الاقتراب من الحل السياسي. وهنا، تبدو أهمية تناول القيود الدولية والداخلية ومدى انعكاسها على الانقسام الداخلي والتكيف مع المطالب الدولية.
الخلطة الدولية للانتقال السياسي
تبلورت، في إطار التحضير للمرحلة الانتقالية، الفواعل الخارجية في مسارين، ظهر الأول في مجموعة من الدول والمنظّمات الدولية، حيث يعمل بشكل متساند كل من الآليتين الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد) والرباعية (السعودية، الإمارات، بريطانيا، الولايات المتحدة). وتعكس هذه التركيبة العوامل المشتركة بين الإطارين، الدولي والأفريقي، وبعيداً عن دول الجوار. وكان المسار الثاني بمثابة استجابةٍ لهذه التطورات في المبادرة المصرية لتهيئة مناخ الحوار بين السودانيين.
ومع تصاعد الخلاف بين السودانيين على خلفية قرارات رئيس مجلس السيادة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، نشطت هذه المجموعات الدولية في رعاية عدّة اجتماعات لتطوير الوثائق الانتقالية. وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وبرعاية آليتي الثلاثية والرباعية، جرى توقيع الاتفاق الإطاري بين الجيش وتحالف الحرية والتغيير- المجلس المركزي، بجانب حركاتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ ومنظمات مجتمع مدني. كما نظمت الآلية الثلاثية ورشة أخرى في الخرطوم، نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، لمناقشة تقييم اتفاق جوبا للسلام. ومن 12 وحتى 15 فبراير/ شباط 2023، استكملت النقاش حول فرص الوصول إلى توافق واسع بين كيانات شرق السودان. وتنظيماته.
تتجلى تحديات الانتقال السياسي في السودان في ثلاثة مصادر؛ هشاشة المكونات السودانية، وتنافر المصالح الدولية، والميراث الطويل لتفكك السلطة
وفي مسار جديد، وتحت عنوان "آفاق التحوّل الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع"، شارك 35 حزباً في ورشة الحوار السوداني خلال الفترة الثانية 7/2/2023، في ورشة القاهرة، لتطوير النقاش بين الأطراف المشاركة في اتفاق جوبا للسلام، وبدت السياقات التنظيمية متقاربةً مع انعقاد ورشة تقييم اتفاق جوبا في عاصمة جنوب السودان، 13 – 18 فبراير/ شباط 2023. وبجانب حضور المشاركين في ورشة القاهرة، حضر عضو مجلس السيادة الانتقالي، شمس الدين كباشي، ممثلاً عن الحكومة، وعدد من قادة الحركات السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى حضور عربي ـ أفريقي شمل منظمة الايغاد، جامعة الدول العربية، وبضمان تشاد والإمارات.
المحتوى السياسي
تضمّنت مُخرجات الورش مهام كثيرة، وبجانب الحاجات الدستورية اللازمة لإجراء الانتخابات، شملت قضايا تهيئة المناخ السياسي عبر معالجة المشكلات الأساسية في هياكل السلطة الانتقالية وأجهزة الحكم، العدالة الانتقالية، تفكيك نظام 30 يونيو والإصلاح المؤسّسي، وهي بطبيعتها ملفات مُمتدة تتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً.
تتلاقى المناقشات والوثائق الانتقالية على عوامل مشتركة، في مقدمتها إبعاد العسكريين عن السياسة. وفيما يتطلع الاتفاق الإطاري إلى تنفيذها على مرحلة واحدة، يتبنّى اتفاق جوبا تنفيذها على خطوتين، تبدأ بهيكلة القوات المسلحة ودمج المسلحين. وفي هذا السياق، راعت ورشة القاهرة تغيير تركيبة القوى السياسية، عندما دعت إلى تطوير الوثائق الدستورية، لعل أهمها قرار رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، بانسحاب الجيش من العملية السياسية، يونيو/ حزيران 2022، وتكرار انقسام الأحزاب السياسية والجماعات المُسلحة. في هذا السياق، اقترح المشاركون حياد السلطة المدنية الانتقالية ليكون تشكيلها من خارج الانتماءات الحزبية، لتقوم بمهمة معالجة أسباب الحرب الأهلية ومنع نشوب النزاعات المسلحة.
ظل نقص أفكار الانتقال السمة الرئيسية في السياسة السودانية، ولم تتمكن الحكومات المتتابعة من الوصول إلى تسوية تاريخية لأزمة التكامل الوطني
وعلى أية حال، انشغلت الورش بماهية السلطة الانتقالية، وثارت نقاشاتٌ بشأن صيغة الحياد السياسي من جانبين؛ وفيما كان اتخذ الاتفاق الإطاري موقفاً تقليدياً بمنع العسكريين من السياسة والاستثمار، وتشكيل حكومةٍ مدنية، فقد نظرت إليه ورشة القاهرة بمعنى الوقوف على مسافة واحدةٍ من الجماعات السياسية، وتجميع كل السلاح تحت إدارة الجيش والقوات الأمنية، كما أضافت مفهوماً أخر، يمكن تسميته الحياد المدني عبر تشكيل الحكومة من غير الحزبيين، فيما تقوم الأحزاب المشاركة في التحوّل الديمقراطي بدور الجهة الرقابية التشريعية.
السودانيون وسط اتفاقات مختلفة
على مستوى التفاعلات الداخلية، عملَ مجلس السيادة على تأكيد مركزه القانوني والاحتفاظ بالتمثيل السيادي في الداخل والخارج، سواء من خلال التوقيع على الوثائق الانتقالية أو الاحتفاظ بحقّ تمثيل الدولة. وفي هذا السياق، بدت ممارسات حمدان دقلو وشمس الدين الكباشي علامة على الحضور القوي للمؤسسة العسكرية، واحتمالية انقسامها على خلفية المواقف من اتفاقي الإطاري وجوبا.
ومن جانب مشاركة الأحزاب والحركات السودانية، يمكن تصنيفهم إلى مجموعتين، شاركت الأولى في الاتفاق الإطاري، وتتكون من تحالف الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي، وهي في غالبها من أحزاب اليسار وحزب الأمة القومي. تتقارب هذه المجموعة مع الآلية الثلاثية والرباعية الدولية. في هذا النطاق، يتطابق خطاب تجمعي المهنيين والديمقراطي للدبلوماسيين مع المجلس المركزي والحزب الشيوعي، حيث يُمثل الاتفاق الإطاري حلاً وحيداً وتكوين جبهة عريضة لحصار تحالف العسكريين والإسلاميين. ولذلك، يكمن الحلّ في تمكين المجلس المركزي من السلطة.
أما المجموعة الثانية، فهي تحالف الحرية والتغيير ـ الكتلة الديمقراطية، ومجموعة أحزاب منها التيار الرئيس للحزب الاتحادي الديمقراطي وحركة العدل والمساواة، ومنظمّات أهلية تمثل أقليم دارفور وأقاليم الشرق، بالإضافة إلى شغلهم مناصب حكومية. وبجانب دعم التحالف قرارات قائد الجيش في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وحضوره الواسع في اتفاق جوبا، فإنه يُعد الحليف الرئيسي لمصر.
التفكّك وأزمات الثقة
تبدو تحدّيات الانتقال في ثلاثة مصادر، هشاشة المكونات السودانية، وتنافر المصالح الدولية، والميراث الطويل لتفكّك السلطة. ولا تبدو كثرة التنظيمات السياسية حالةً صحية. ويمكن تصنيفها تعبيراً عن حالة انقسامية أكثر منها الرغبة في الوحدة، فكثير من تعبيراتها يكشف عن حالة رفضٍ متبادلٍ فيما بين الموقعين على كل من اتفاقي الإطاري وجوبا، حيث يدخل طرفا "الحرية والتغيير" مزايدة في رفض مقترحات الآخر. وفي هذا السياق، يشكّل الموقف من إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 جذراً للأزمة السياسية الراهنة، فهو يُمثل مسألةً مفصليةً بين تحالف المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية وحلفائها، وذلك من وجهة القبول بدور الجيش أو استبعاده.
في هذا السياق، تتبلور الانقسامات السودانية ما بين ترابط المجلس العسكري واتفاق جوبا، والدعم السريع وتحالف المجلس المركزي. وبمرور الوقت، تتزايد الفجوة، بحيث تنحصر الخيارات في الاستحواذ على السلطة. وتشير مداخلات الطرفين، هذه الأيام، إلى احتمالات تصعيد الصراع العسكري من دون وجود كوابح داخلية أو خارجية، ما يضع المؤسّسة العسكرية أمام خيارات مفصلية.
ومع انخفاض الثقة المتبادل، تتجه المكونات السياسية والعسكرية للاحتفاظ بمقوماتها وتأمين مناصبهم في الدولة، وقد ظهرت آثار هذا السلوك في تباطؤ ملفّ الترتيبات الأمنية ودمج المسلحين، حيث تنخفض الثقة في جهاز الدولة وقدرته على توفير المال اللازم لعملية دمج المسلحين. في السابق، أخفقت المراحل الانتقالية في تجميع قوة الدولة، وحالياً، تعمل الانقسامات الشديدة على هَدر القدرة على إدارة الموارد وتزايد الأحزاب والحركات متقاربة الأسماء والنزعة المحلية.
تدويل الأزمة
وبجانب نشاط البعثات الدولية في السودان، لم يقتصر نشاط مبعوثي الدول على استكشاف التوجّهات، بل شرعوا في بناء تفضيلاتٍ سياسية. وبالإضافة إلى زيارة متزامنة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كشف البيان المشترك للمبعوثين الدوليين، فرنسا وألمانيا والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، صدر في 9 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، عن التضامن حول الاتفاق الإطاري وصلاحيته لمعالجة جذور الصراع وتنمية الديمقراطية، ولم تفته الإشارة إلى مساءلة المتسبّبين في إبطاء التحوّل السياسي من الجيش، المسلحين والمدنيين.
انشغلت مكونات التحالف بالتمكين السياسي، من دون الالتفات إلى العيوب التنظيمية وانحسار القدرات الفكرية
وبينما تعمل ورشة القاهرة على صياغة منظور داعم لتفاوض العسكريين والمدنيين، تعمل الآليتان الثلاثية والرباعية على فرض مفهوم للدولة المدنية، يتجاهل واقع الانقسامات السياسية والعسكرية في السودان، حيث تفترض انضواء أطراف اتفاق جوبا كافياً لنجاح الاتفاق الإطاري وتمكين الحكومة الانتقالية من فرض سلطة الدولة وتهيئة الظروف لاستئناف التعاون الدولي. وبشكل عام، تعمل الاتصالات الدولية كوابح لتطوير الحل السياسي، عندما تعمل على تشتيت السلطة والإخلال بتوازن المؤسسة العسكرية أو إثارة نزاعاتها الداخلية. وكغيرها من البعثات الأممية، لا تتجه بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) مباشرة للوصول إلى الانتخابات، ولكنها تنصرف إلى أنشطة ثانوية تثير المشكلات أكثر مما تقدّم حلولا.
قيود دائمة تواجه الانتقال السياسي
وقع تخطيط المرحلة الانتقالية في الخلط ما بين الوضعين، المؤقّت والدائم، فقد انشغلت الاتفاقات بمهام تفوق قدرة الدولة والحكومة، وخصوصاً عندما جمعت ما بين هيكلة الحُكم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وهي في طبيعتها مهام إعادة البناء التي تتطلّب تفويضاً شعبياً وأجهزة مستقرّة، فليس من مهام الانتقالية معالجة المشكلات المزمنة بقدر تهيئة المناخ للانتخابات، ولعل تركيز المؤسسة العسكرية والمبادرة المصرية على الحياد المدني والعسكري يوفر أرضية مناسبة لترتيب توافق الحد الأدنى للتحول السياسي.
على أية حال، تتفاعل التيارات الداخلية والخارجية في رسم ملامح ضعف القابلية للالتزام السياسي، فمن جهة التكوينات الداخلية، يُشكّل الانقسام فيما بين القوات النظامية والحزبية مصدراً لانخفاض التكيّف مع احتياجات المرحلة الانتقالية، حيث تفتقر المؤسسات والجماعات السياسية للموارد اللازمة لتمويل توحيد السلاح والسياسات العامة. ويمثل التقارب مع إسرائيل مظهراً آخر للانقسام بين القادة السودانيين، فبداية من إلغاء قانون مقاطعة الصهيونية وانتهاءً باللقاءات الرسمية، بدت مساعي أعضاء مجلس السيادة عاملاً إضافياً للأزمات الداخلية من دون عائد واضح. ومن جهة التنافس الدولي والإقليمي، يمكن ملاحظة تناقض الأهداف السياسية والأمنية، فهناك الكتلة الغربية، روسيا ودول الجوار، تتفاقم آثار الخلافات مع إدراج وضعية الجيش ضمن المساومات بين الدول.
تتفاعل التيارات الداخلية والخارجية في رسم ملامح ضعف القابلية للالتزام السياسي
وبالإضافة إلى الانقسامات وتشتّت القوى السياسية، ظل نقص أفكار الانتقال السمة الرئيسية في السياسة السودانية، ولم تتمكّن الحكومات المتتابعة من التوصل لتسوية تاريخية لأزمة التكامل الوطني. ولدى قراءة الوثائق والبيانات، يمكن ملاحظة تلاقيها على وحدة الدولة وغياب الإشارة إلى الحكم الذاتي أو حق تقرير المصير، ما يشكّل تطوراً مهماً في السياسة السودانية، لكنها في الوقت ذاته، تُركز الصراع على السلطة ونقله من الهامش إلى مركز الدولة، وفي ظل تنافس المكونات العسكرية وصعوبة دمجها، تتزايد احتمالات اندلاع صراع واسع في العاصمة المثلثة.
تترافق هذه القيود مع أزمة الشرعية التي تواجه كل الأطراف السودانية. ويظل تعريف حدود تفويض السلطة الانتقالية إشكالياً، حيث يفتقر الوضع الراهن لأساس واضح للمطالبة باستلام السلطة، فلم تشهد السودان انتخاباتٍ يعتدّ بها منذ 1986. ولذلك، تُلازم مشكلة الشرعية التكوينات الانتقالية، حيث تنحدر من جانبين؛ يتمثل الأول من استمرار الخلاف حول شروط المشاركة في المرحلة الانتقالية. وبالتالي، يواجه مسارا الاتفاق الإطاري وجوبا للسلام نقص التفويض اللازم الشعبي/ السياسي لوضع ملامح الحُكم وشكل الدولة ولتقرير مستقبل السودان، فلغياب اختبار لقوتها التعبيرية عن المجتمع لا يوفر المدنيون حلاً كافياً للانتقال السياسي. ولمعالجة هذه الإشكالية، ربطت ورشة القاهرة تشكيل الحكومة المدنية بثلاثة قواعد، خلوّها من الأحزاب، ارتكاز السلام على التعاون الجماعي والتوافق مع المؤسسة العسكرية. أما الوجه الثاني، فيتمثل في نقص قدرة السودانيين على التكيف مع اختلاف تصوّر الأطراف الدولية.
ويمكن القول، إنه في ظل الانقسامات، لم يساعد تسيير المرحلة الانتقالية بتحالف سياسي على الاقتراب من الانتخابات وإنضاج الحلّ السياسي الشامل، حيث انشغلت مكوّنات التحالف بالتمكين السياسي، من دون الالتفات إلى العيوب التنظيمية وانحسار القدرات الفكرية، لتظلّ هذه الخصائص عقبة رئيسية في صياغة وثائق تتمتع بالمرونة والانفتاح، بل اقتصرت مساهماته على مجموعة إجراءات لم تتطوّر منذ الاستقلال، وهو ما يثير التشكّك في كفاءة الوثائق والإرادة المشتركة لتجاوز أزمات الدولة.