السلطويات العسكرية وإرث ''23 يوليو''

28 يوليو 2022
+ الخط -

حلت، قبل أيام، الذكرى السبعون لقيام ''ثورة 23 يوليو'' (هل كانت ثورة فعلا؟) التي قام بها تنظيم 'الضباط الأحرار'، وأطاحت النظام الملكي في مصر وأقامت نظاما جمهوريا. وقد ساهمت الأحداث التي شهدتها المنطقة خلال العقد الفائت في تجدّد النقاش بشأن الدور الذي لعبته العسكرتاريا المصرية في وضع الأسس الأيديولوجية والسياسية للسلطوية العسكرية وترويجها، خصوصا بعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي (2013)، الذي أعاد إلى الواجهة الدور الذي لعبته هذه العسكرتاريا في إعاقة التطور الديمقراطي في مصر والمنطقة. ويمكن القول إن هذا الانقلاب كشف الحاجة إلى إعادة قراءة التجربة الناصرية وتأثيرها في ديناميات الصراعين السياسي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي.

مرّت سبعون عاما على حدث مفصلي كان له بالغ الأثر في تشكّل بيئةٍ فكريةٍ عربيةٍ معاديةٍ للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والتداول على السلطة والمحاسبة. وهو ما يبدو واضحا في ما راكمه الفكر السياسي العربي، على الأقل إلى بداية الثمانينيات، إذ اندرج معظمه ضمن أفق المصالحة مع الاستبداد وتبريره، وتجفيف منابع السياسة، وترسيخ الحكم السلطوي، واستبعاد الديمقراطية من أجندات النخب السياسية والفكرية، بذريعة وجود أولويات كبرى، أبرزها تحرير فلسطين ومجابهة الاستعمار وتحييد البلاد العربية.

تزامنَ ''ثورة 23 يوليو'' (1952) مع انطلاق حركات التحرر العربي منح الأخيرة زخما سياسيا لا يمكن إنكاره. وبالتالي، جعل الكفاح المسلح العنوان الرئيس لمعظم هذه الحركات، التي سرعان ما شكّلت العمود الفقري للجيوش الوطنية بعد الحصول على الاستقلال، ما منحها شرعية سياسية لا تزال تتغذّى عليها. وفي المقابل، شكل الخيار الثوري واليساري لهذه الحركات، التي رأت في جمال عبد الناصر قائدا عربيا ملهما لها، مصدرَ تهديد لأجنحتها المحافظة والليبرالية التي وجدت نفسها بلا تغطيةٍ فكريةٍ وسياسيةٍ إقليمية تشكل عنصر توازن في مواجهة المد الناصري.

ساهم الحكم الناصري في ترسيخ حالة الاستقطاب هاته. وتحوّل ذلك إلى تقليد سياسي تعمل به السلطويات العسكرية في المنطقة، ما ساهم في تجذير التصلب الفكري والسياسي لدى النخب السياسية العربية بمختلف أطيافها، وانعطافِ قطاع عريض منها نحو الخيار الانقلابي. وسقطت الحدود الفاصلة بين الدولة والسلطة والنظام، بعدما تحوّلت سلطة الدولة إلى سلطة النظام، الذي أصبح يحيل، بالضرورة، إلى الزعيم الملهم الذي يستمد شرعيته الحقيقية، وليست المعلنة، من تحكّمه في مصادر السلطة والثروة.

منح الحكم الناصري التغطية الأيديولوجية والسياسية والتاريخية لقيادات الجيوش العربية، الوسطى والدنيا ذات الأصول القروية، التي قادت أشهر الانقلابات في المنطقة، مُجهضةً، بذلك، ''التمرين الديمقراطي'' الذي كان قد انخرط فيه أكثر من بلد عربي خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.

ما آل إليه الوضع في العراق، مثالا لا حصرا، من تفكك أهلي واجتماعي وسياسي وانهيار اقتصادي، يعود إلى ذلك الانقلاب الدموي المشؤوم (1958)، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام موجة من الانقلابات والانقلابات المضادّة (التصحيحية) التي انتهت بسيطرة حزب البعث على السلطة (1968)، وتأسيس نظام استبدادي يتحمّل المسؤولية عما عاشه ويعيشه العراق من ويلات. ويكاد الأمر لا يختلف في سورية واليمن وليبيا، فقد أفضت سيطرة الجيوش على السلطة إلى أمْنَنـة السياسة ومحاصرة المعارضة وتفكيك النسيج الأهلي والوطني. وحينما انتفضت الشعوب مطالِبةً بالحرية والديمقراطية والكرامة، لم تهضم السلطويات العسكرية الحاكمة هذه الجرأة غير المسبوقة. ولعلها هنا تكمن دلالة سؤال معمّر القذافي، حين خاطب المتظاهرين المنتفضين ضد حكمه: من أنتم؟

يُبرز إصرار العسكر على الاحتفاظ بالسلطة، في مصر والسودان والجزائر، التأثيرَ العميق الذي مارسته ''ثورة 23 يوليو'' على السياسة العربية، فعلى الرغم من أن الثورات العربية قد أحدثت ما يشبه القطيعة في هذه السياسة، إلا أن طمع العسكر في السلطة يكاد لا يتوقف، وكأن سيطرتهم على مقدّرات الأوطان مسلَّمةٌ لا تحتمل الجدل والخروج عنها.