السلطة الفلسطينية و"الجنائية الدولية"
أخيراً، لبّت المحكمة الجنائية الدولية المطالب الفلسطينية الكثيرة التي كانت تطالبها بالتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. لا شك في أن ما أعلنته المحكمة، أول من أمس، أن الأراضي الفلسطينية تقع ضمن اختصاصها القضائي، ما يمهد الطريق أمامها للتحقيق بشأن "جرائم حرب"، يمثّل إنجازاً فلسطينياً في مواجهة إسرائيل. الأمر الذي يجب البناء عليه فعلياً في المرحلة اللاحقة من تحضير ملفات لكثير من الانتهاكات التي ارتكبت في الأراضي المحتلة عام 1967، في مسعى إلى زيادة الضغط على إسرائيل، والتي بدأت فعلياً تنظر بقلق إلى قرار المحكمة، وأعدت لائحة بأسماء المسؤولين الذين قد تطاولهم الأحكام التي من الممكن للمحكمة أن تصدرها.
خلال الأعوام الماضية، قامت السلطة الفلسطينية بتسليم أكثر من 54 رسالةً وملفاً إلى المحكمة الجنائية الدولية، منها الملفات الأساسية، وهي الاستيطان، الأسرى، العدوان على غزة عام 2014 وإرهاب المستوطنين، وهي التي ستمثل أولوية بالنسبة للمحكمة. غير أنه بحسب مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لقطاع العلاقات متعدّدة الأطراف، السفير عمار حجازي، والذي يقع تحت مسؤولية قطاعه ملف المحكمة الجنائية الدولية، فإن ملفي العدوان على غزة والأسرى خارج البحث حالياً، ليتم التركيز على الاستيطان الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس المحتلة، وهو ملف أساسي بالنسبة إلى القضية الفلسطينية عموماً، وليس فقط بالنسبة إلى مبدأ المحاسبة. نظر المحكمة في هذا الملف سيكون قائماً، من الناحية القانونية، على جريمة الطرد القسري وطرد السكان الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء عليها لصالح الاستيطان. المهم في تحقيق كهذا، في حال سار وفق ما هو مطلوب، هو أن نتائجه لن تكون محصورة بضباط صغار أو مسؤولين عسكريين، بل سيطاول أعلى المراتب في دولة الاحتلال، باعتبار أن قرارات الاستيطان والتوسع الاستيطاني تأتي مباشرة من الحكومة، وليست متروكة لما يمكن تسميته "ردات فعل" على الأرض لعناصر يقومون بتنفيذ الأوامر.
من المتوقع أن مثل هذا المعطى سيحفز تدخلات سياسية كبيرة في عمل المحكمة أو الضغط عليها، وهو ما كان بدأه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عندما قرر فرض عقوبات على مسؤولين في المحكمة، بسبب تحقيقهم في جرائم حرب قد تكون القوات الأميركية متورطة فيها في أفغانستان. على المنوال ذاته سيكون تعامل الإدارة الأميركية الجديدة، وهو ما ظهر من التعليق الأول لواشنطن على قرار المحكمة، إذ اعترضت الخارجية الأميركية على الأمر وأعربت عن مخاوف بشأن محاولة المحكمة ممارسة اختصاصها على العسكريين الإسرائيليين. اللافت، حتى الآن، هو غياب موقف أوروبي واضح من قرار المحكمة، ولا سيما من الدول الأعضاء فيها، وما إذا كانت ستكون مستعدة لتنفيذ قرارات المحكمة في حال طلبت مسؤولين إسرائيليين. فبما أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة، فمن المتوقع أن ترفض طلبات الاستدعاء، لذا يتم تعميم أسمائهم على الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية، ويصبح من واجبها جلبهم للمثول أمام المدعية العامة. الأمر الذي ربما يفسر الصمت والإرباك الأوروبيين.
المرتقب اليوم هو أن يدخل قرار المحكمة الجنائية الدولية وتحقيقاتها في دائرة البازار السياسي، مع السلطة الفلسطينية، خصوصاً في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه الأخيرة، وحاجتها إلى عودة العلاقة مع الولايات المتحدة تحديداً، ورفع ما كان أشبه بالقطيعة التي كانت قائمة في عهد الإدارة السابقة. هذا بالتأكيد ما ستلجأ إليه إدارة الرئيس جو بايدن عبر ممارسة ضغوط لتجميد التحركات الفلسطينية أمام الجنائية الدولية، وهو ما سنرى كيف ستتعامل معه السلطة.