"السجون" ... سيرة بين المرض والمخيّلة

15 مايو 2023
+ الخط -

في كتابه "السجون ... سيرة ذاتية بين المرض والمخيلة" (وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 2021)، يتدفّق الكاتب والشاعر الأردني، حكمت النوايسة، بوحا شفيفا منفلتا متخفّفا من كل القيود، في أسلوب ساحر آسر يمزج ببراعة بين أشكال متعدّدة من الكتابة، فيتنقل بخفّة ورشاقة بين اللغة الشعرية والسرد الروائي متعدّد الأصوات والتداعي التلقائي الحر، ويذهب بعيدا في التأمل في الفلسفة وعلم النفس، ليسرد الحكاية بكل وجعها، ويقول كل ما يجول في خاطره دفعة واحدة، غير ملتفتٍ إلى الضوابط والمحاذير، ويضع القارئ أمام تفاصيل حزينة مؤلمة بالغة القسوة، اختبرها في رحلة المرض الخطير الذي ألم به منذ سنوات، حين ضربته حمّى عالية، وتسرّب فيروس إلى الدماغ، فأصيب دماغه بالتهابٍ خطيرٍ في القحف الأيسر منه، ما أدّى إلى دخوله في غيبوبة دامت ما يزيد عن عشرين يوما، استيقظ منها بأعجوبةٍ مفنّدا تشخيص الطبيب الإسباني الذي توقّع له موتا وشيكا، أو شللا كاملا، استيقظ من غيبوبته، فاقدا من الذاكرة أحداث 25 عاما بحسب تقدير الأطباء، وصف ذلك قائلا "عندما تفقد الذاكرة تعود إلى عاطفة الطفل فيك، تحب من تحسّ بأنه يحبّك وتكره من تحسّ بأنه يكرهك". 
كان عليه، في تلك الفترة الحرجة الفاصلة، ترميم ذاته المشظّاة التائهة الغائبة، رغم الحضور الفيزيائي واستعادة ما تيسّر من ذكريات وأسماء وأحداث وأمكنة. يقول حكمت في الخاتمة "لا أدري، أهي التجربة التي مررتُ بها في مرضي أم شيء آخر دفعني إلى كتابة هذه السيرة، لعلّي أردتُ بذلك أن أمحوها كي لا أبقى محتقنا بها". والحقّ أنه بهذه المغامرة الإبداعية المتفرّدة، حرّر نفسه مرّة وإلى الأبد من تهديد النسيان، واسترد بذلك ما تسرّب تحت وطأة المرض اللعين الذي وضعه في حالةٍ عصيّةٍ من التيه والحيرة والارتباك والغضب والإحساس بالفقد والخسارة والأسى، والعجز يقول حكمت "في تلك الفترة الموحشة القاسية ما من دماغ يوجّه الحركة، فالدماغ كان مشغولا بنفسه. عجيب هذا الدماغ، عجيبٌ أنت، أيها الإنسان، عندما تتصوّر نفسك قوة عاتية، وما أضعفك!". وفي مقدّمة الكتاب يقول "كان يمكن للأمر أن يكون أفضل لو كانت هذه السيرة الذاتية غير مرتبطة بالمرض. إنني أتضاءل وأشعر بالأسى حين أشاهد من يسرد سيرته بشكل سلس دون أن يكون هناك نص مكتوب أمامه". 
يُعاين الكاتب، من خلال سيرته الملتبسة هذه، الوجود، ويطرح أسئلته بشأن تقلبات الحياة ومفاجآتها غير السارّة، ويعود إلى مكانه الأول وطفولته البعيدة. يكتبها روائيا بذهن صاف وذاكرة متّقدة واضحة المعالم. يأتي على إقامته في العراق، طالبا جامعيا وبعثيا سابقا وجنديا متطوّعا في الحرب مع إيران، ويعبر عن خيبته من تجربته السياسية، ويتوصل إلى خلاصة مفادها "إن البعث حزب الخلاص الذي قتلته الفردية، وتحوّلت الفكرة النبيلة من بعث إلى عبث". 
سجونٌ كثيرة تحتشد في رأسه، يتأمّل فيها كاتبنا، ويفلسف سطوتها على روحه المتعبة، سجن الهوية والحب والجمال والذاكرة والمرض. يُفرد الكاتب من باب الوفاء الذي يتميّز به على صعيد إنساني صفحاتٍ عديدة للحديث عن الزوجة الحبيبة، والسند التي صارت أمّا مذعورة على صغيرها، تراعي كل التفاصيل الصغيرة، وتسعى إلى استفزاز ذاكرته المعطوبة، مكرّسة كل وقتها للأخذ به، بعيدا عن عتمة تلك البئر السحيقة، وتعيده إلى الحياة بكل ما أوتيت من طاقة على الحب، ولا تنسى الإشارة إلى وقفة الشهامة من رفاقٍ كثر لم يتركوه وحيدا، فيعبّر لهم عن امتنانه الكبير، ويفرح بطاقة الحب التي وجد نفسَه محاطا بها.
"السجون ..." كتابٌ مختلف، مخيفٌ أحيانا لشدّة ما فيه من أهوال، محفّز، في أحيان كثيرة، على التأمل طويلا في الحياة، وعلى النظر إليها طوال الوقت بعين الريبة والتوجّس.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.