الزول الصيني وثغر عَوَّاشة

29 يناير 2017

(لي أوفان)

+ الخط -
أرسل إليَّ الصديق المهندس ماهر حميد حكايةً استوحاها من لقاء جمعني وإياه، هذا نَصُّها: زرتُ مدينة إسطنبول، في الصيفية قبل الماضية، أيامَ كنا، نحن السوريون، ندخل الأراضي التركية من دون تأشيرة، وهناك التقيتُ بصديقي الكاتب الساخر خطيب بدلة، وجلسنا على رصيف حانوتٍ صغير في زقاق يتفرع عن شارع الاستقلال، تديره سيدةٌ تركية لطيفة اسمُها "إدّعاء"... وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، ونعود بالذاكرة إلى تجربتنا المشتركة في مجلة "كش ملك" الساخرة، التفت نحونا رجلٌ ذو ملامح آسيوية، كان يجلس وحيداً إلى طاولة صغيرة، وعرض علينا فكرة التعارف، والجلوس إلى طاولة واحدة، فرحبنا بالفكرة، ووحّدنا الطاولتين.
كان الرجل يتحدّث باللغة العربية بلهجة أهل السودان، وقد أوضح لنا أنه صيني، ويحمل اسم يان وُوُ، وأن أسرته عاشتْ في الخرطوم حوالي خمس عشرة سنة، لكون والده يشتغل في شركة تجارية عالمية.
همستُ لأبي مرداس بأنني أنوي سؤاله عن الشعر، فقال لي: على كيفك، اسأله لنرى. فقلت: يا زول يان وُوُ، ماذا عن الشعراء في الصين؟
فكان وَقْعُ سؤالي عليه شبيهاً بسؤال رجل ديري عن أهم أعلام مطربي الـ (rock and roll) في دير الزور، إذ سرعان ما ينتفض في وجهك قائلاً:
- روك أند رول أيش يا ابن الحلال؟ اسكت لا يسمعك شباب نادي الفتوة، وتاكل قَتْلة.
توصلنا، أنا والصديق أبو مرداس، من خلال الحوار مع الزول يان وو، إلى أن الصين الحديثة شبه خاليةٍ من الشعراء، عدا بعض الشبان الذين لا يحظون بأية شهرةٍ أو أهميةٍ، ونادراً ما نعثر على صيني يحفظ قصيده لشاعر صيني أو أجنبي، أو يستشهد في سياق كلامه ببيت شعر لعمر الفرّا أو محمود درويش أو نزار قباني أو مظفر النواب. وأما مَن نال الشهرة من شعرائهم، فهم الذين تبناهم الغرب، لكونهم يعارضون النظام الحاكم في الصين. وقال يان وو، وهو ينقل عينيه الذكيتين بيننا:
- أعتقد أن انحسار دور الشعر والشعراء حالة صحية في أي مجتمع ينزع إلى الإنتاج، وليس إلى "صَفّ السوالف"... فالإنتاج والمردود هما اللذان يعطيان قيمةً لشعبٍ ما بالمقارنة مع باقي الشعوب. ويستحيل أن تتشكل القيمةُ من خلال "أثافيَّ سُفْعاً في مِعَرَّس مِرْجَلٍ"، أو معلقات تحكي عن بعر الآرام وتقبيل السيوف التي تلمع كبارق ثغر عبلة التي يَعتقد بعضُهم أن اسمها الأصلي عَوَّاشة. الشعر العربي ما يزال من مزايا حضارتكم. وأنا بصراحة أستغرب كيف لا تخجلون من الاعتقاد بأنكم "أبناء جلا وطلاع الثنايا"، وتقولون بالفم الملآن إنكم تشربون الماءَ صفواً ويشرب غيركم كدراً وطينا... فنحن في الصين، مثلاً، لا نشرب الماء إذا لم يكن عذباً ومعقماً، ثم لماذا تقولون يشرب غيرُنا طينا؟ حرف الألف لويش يا أزوال؟
حاولنا، أنا وأبو مرداس، أن نشرح للسيد يان أن الحضارة العربية متنوعة، وفيها كمياتٌ كبيرة من المؤلفات والبحوث الدينية، وأن النثر عندنا لا يقل أهميةً عن الشعر، وقدّمنا له أمثلةً من الناثرين الكبار، كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن الجوزي، ولكننا لم نستطع أن نغيّر الفكرة العامة لديه عن ولع العرب بالشعر، واهتمامهم الخاص بالحماسة والفخر العامرين بالمبالغة والتطنيب.
بعدما غادرنا الزول يان وو، قلت لأبي مرداس:
- بيني وبينك؟ يان وو على حق، فأنت ترى الواحدَ منا قد لفّ جواله بكيس نايلون، وراح "يتلطل" من بلم لبلم، ومن مخيم إلى مخيم، ومن حدود إلى حدود، حتى يصل إلى بلاد الضمان الاجتماعي، ويطلب اللجوء، ثم يجلس في الكامب ويتلقى المعونات، وهو، في قرارة نفسه، يصدّق أنه أنبل بني البشر.
قال أبو مرداس: لا أحد ينكر أن هذه المقاربة جيدة، ولكن الأمر، برأيي، ليس على هذا القدر من البساطة.


دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...