"الرّجل" بعد التقاعد
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
دخل الرجلُ الستّيني الموفور الصحة إلى مجلس العزاء بكامل قيافته العصرية: بدلة منسّقة ومكوية جيداً، من ياقتها حتى حافّات أردانها، ربطة عنق متناسقة الألوان، لحية حليقة وسحنة تطفح بالبِشْر، شارب مصبوغ بالأسود متوسّط الكثافة، ومن معصم اليد اليسرى تطلّ ساعة رولكس مهيبة، وعلى سطح الخنصر يلتفّ خاتم فضّة تتوسّطه عين عقيق تنبض بالحياة. قد يكون بعض الحاضرين في العزاء لم يخفوا اندهاشهم، لأنّ هناك من يعرفه، ونقل المعلومة سريعاً بهمهمات كهربائية، بيد أنّ بعضهم اعتبره أستاذاً جامعياً عربياً وهو يدور على أيدي الصف الدائري الطويل مسلّماً. وبعد انتهاء المصافحة قام أحد الذين يعرفون مقامه وجرّه من يده ليتصدر المجلس، مردّداً بارتباك: "ربما معاليه جاء من سفرة رسمية، ومن المطار إلى مجلس العزاء، لم يضيّع الوقت للذهاب إلى البيت ليغيّر ملابسه"، وكأنّه جاء بملابس غير لائقة تستدعي التوضيح، إذ للعزاء حلّته التي يتقيد بها عادة حتى الصبية الأغرار، تتمثل في الدشداشة البيضاء والمصر مع اصطحاب العصي العمانية المعقوفة الرأس. لم يعلّق الرجل على العبارة الدالة على قدومه من المطار، لم يؤكّدها نفوراً، ولم ينفها مراعاة لوضع قائلها، خاصة أنّه المبادر إلى دعوته لتصدّر المحفل. بعض الداخلين حديثاً إلى مجلس العزاء، كانوا حين يصل دور المصافحة إليه، يلفظون مباشرة كلمة دكتور أو أستاذ قبل أن يتدارك أحدهم، وقد انتبه إلى الملامح الواضحة للرجل، ويطلق كلمة "معاليه"، وهو يرفد يمناه يسراه، ويهزّهما حانياً جذعه قليلاً.
دار التمرُ على الحاضرين، فاكتفى الرجل بفنجان قهوة يتيم قُدّم له في تجويف كرتوني صغير، احتساه على مهل، وهو ينقّل عينيه بين وجوه المجلس، وكأنّه يقرأ حديثاً محتملاً تنطق به أعينهم، لكنّه أدرك مع تقدم الوقت أنّ (العملية) تمت بسلام، وأنّ الجمع لم يعد مهتماً بأمر ملابسه، بل إنّ بعض النظرات كانت ترسل نور بصرها إليه بحياد وبرضا تام، وهناك من رأى في ذلك علامة تنوّع وكسرٍ مريحٍ لجهامة الحياة؛ أن يختار وزيرٌ مجلس عزاء ليرتدي ملابس عصرية بالغة الأناقة، وهناك من صرف نظره إلى ناحية نوع الثوب الذي خيطت به بدلته، وثمن الساعة التي يرتديها، وهناك من صّوب سهام عينيه جهة عين العقيق التي تبرق من ظهر خنصره الأيسر. أحد الملاصقين له بالغ في مجاملته حين تحدّث عن حرية اللبس، وأنّها ليست أكثر من أردية تصنع خارج البلاد، من دون أن يحظى من الرجل بأي ردّة فعل، الأمر الذي دعاه إلى تغيير مجرى الحديث إلى مواضيع لا يجمعها رابط، ولأنّ الرجلَ كان وزيراً للقانون في وقت سابق، ولكي يثبت مدى اطلاعه وثقافته، تطرّق جليسه إلى رواية قديمة لتوفيق الحكيم، كان أحدَ أبطالها الهامشيين حمار. هنا، ندّت عن الرجل ابتسامة، وامتلأ صدرُه بمقدمات ضحك حدّ من تدفقها مقام العزاء.
حين ترك منصبه في الوزارة، اختار عالم رجال الأعمال والمضاربات الحرّة، ظلّ بعد ذلك مرتبطاً بالسفر والتجوال. ومن ضمن القرارات التي أضافها إلى حياته، تخلّيه عن الملابس التقليدية نهائياً. حتّى في الأعياد، كان لا يصطفّ أمام محال الخياطة كما يفعل بعض زملائه السابقين تظاهراً بأنّ الوزير يمكنه أن يكون مثل العامة في الوقوف خلف الصفوف، بل لم يُحضر خياطين إلى بيته. في مكتبه كذلك في الشركة، كان لا يتخلى عن ملابسه الأنيقة تاركاً موظّفيه على حرّيتهم في ارتداء ما يشاؤون ما دامت أمور العمل تجري على وجه معقول. لا يفرط في المناسبات الاجتماعية، بل يؤدّيها بحرص، خاصة زيارات المرضى من أقاربه، ولكن أيضاً، من دون تفريط في أمر ملابسه. وكانت هذه المرة الأولى التي يحضر فيها مراسم عزاء بملابس عصرية. لا شك أنّ الأمر استغرق منه يومين كاملين لاتخاذ القرار بإضافة مراسم العزاء إلى قرار التغيير، ولكن في آخر يوم، عقد أمره، وتقدّم بكامل زيّه جهة صحن العزاء.
كان ينظر من الكرسي الخلفي إلى سيّارته منتشياً وكأنّه يرى العالم من حوله بحلّة جديدة، وكأنّ البلد تغيّرت وصار للغروب معنى، كما سيصير الشروق إلى معنى آخر، كذلك.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية