الرهان على الكلمة
يتعرّض كثير من الكتّاب العرب في أيامنا العصيبة السوداء هذه إلى أزمة حقيقية، حين يواجه الواحد منهم بياض الصفحة وقد تمكّن العجز واليأس من روحه الملتاعة المصابة في يقينها، يسأل نفسه: ماذا عساي أن أكتُب؟ ما الجديد الذي بإمكاني إضافتُه في ظلّ هذه المجازر الوحشية الدائرة في غزّة على مدار الساعة سوى التفجّع والندب والشجب والإدانة؟ وكيف أتفادى تكرار ذاتي وبثّ اليأس في نفوس قرّائي المكلومين؟ امتحانٌ شاقٌّ يواجهه الكاتب في كل مرّة، وهو يعي حجم مسؤوليّاته الأخلاقية في تسليط الضوء على قضايا أمته، والالتزام بموقف إنساني شجاع يفضح ممارسات العدو وتخاذل المتواطئين من أبناء جلدتنا ممن انحازوا إلى الباطل وتنكّروا لعذابات أهل غزّة، من دون أن يرفّ لهم جفن، كيف له أن يخرج من هذه الدائرة الدامية الرهيبة المغلقة كي يكتب خارجها من باب التنويع. يحاول بعضهم أحيانا فيتناول كتابا قرأه أو فيلما شاهده أو قضية محلية في بلده، غير أنه يدرك أن ذلك يدخل في نطاق الافتعال والادّعاء، تماما كما يحدُث في دور العزاء حين تفتح مواضيع جانبية من شأنها التخفيف من وطأة الحزن على ذوي الفقيد الذين قد ينسون فجعيتَهم لحظاتٍ فيصرفون الذهن برهة عن مصابهم، غير أنهم سرعان ما يسقطون في الحزن من جديد، حين يتنبهون أن ميّتهم قد مات حقّا وغاب بلا رجعة.
وهكذا تظلّ غزّة وأوجاعها الكثيرة ماثلة في العقول والضمائر والأرواح مهما حاولنا، ويصبح الحديث عما سواها ضرباً من الهروب غير الموفق. وفي حين تصبح المفردات عاجزةً قاصرةً أمام دموع طفل غزّي بات يتيما جائعا شريدا هائما على وجهه مباحا جسده الصغير الغضّ المرتجف تحت نيران عدوٍّ مجرم، فاقت همجيّته ووحشيّته كل التصوّرات، تظلّ الكلمات أداة الكاتب الوحيدة في مقاومة هذا السواد الذي اكتنف العالم غير المكترث، وفي التعبير عن الخيبة والحزن والغضب والرفض لواقعٍ مريرٍ لا تلوح في الأفق أي بادرة جدّية تحدّ من مأساة شعبٍ جرى اغتيالُه وتمزيق أوصاله أمام كاميرات الدنيا، فيما كثيرون من أبناء الأمة المأسوف على وعيها منهمكون بكل جوارحهم في الهدية الألماسية التي تلقتها المغنية أحلام في عيد الحب، وفي مستجدات مسلسل "الخائن" والصراع بين أسيل وتيا على قلب رجل هايف لا يخلو من ميوعة، وغيرها الكثير من قصص تافهة و"تريندات" فاضحة تقتات على اللايكات وردود الأفعال التي لا تقلّ تفاهة ورداءة وابتذالاً.
حين يرصد الكاتب الملتزم المبتلى برهافة الحسّ اهتمامات الشارع العربي وانشغالاته على مواقع التواصل الاجتماعي يُصاب باليأس، ويتفاقم شعورُه بالغربة والوحشة، ويستنتج أن المكترثين بالتغريبة الغزّية قل عددهم مع مرور الأيام، وقد فتر حماسُهم واعتراهم الملل من أنباء الذبح ورغبوا في التغيير، وقد يستسلم للإحساس باللاجدوى، غير أنه انسجاما مع ضميره اليقظ يقاوم، بكل ما أوتي من قوة وتصميم، هذه المشاعر السلبية المنسحبة، ويظل رهانه قائماً على ضمائر الشرفاء الأحرار من مساندي أهلنا في غزّة ممن لم يستسلموا ولم يتوقّفوا عن التعبير عن تضامنهم واكتراثهم بما يجري على أرض غزّة من إثم وعدوان وبلطجة. هؤلاء وحدهم من يمنحون الكاتب القدرة على المواصلة في أداء مهمّته النبيلة، ومن أجلهم فقط تهون الصعاب ويتبدّد اليأس في لحظة، وتنقشع الغمامة حالكة السواد وينبثق الأمل من جديد بإمكانية الخلاص من هذا الكابوس المرعب الطويل، ويبقى الرهان على الكلمة ومدى تأثيرها قائماً رغم كل شيء.