الرد و"الصبر الاستراتيجي"
لا يكاد أسبوعٌ يمرّ من دون أن يعلن عن اغتيال قياديين إيرانيين، تحديداً في الحرس الثوري، بغارات إسرائيلية في سورية بشكل أساس. جديد الاغتيالات وقع أمس في حي المزّة بدمشق واستهدف أربعة من قياديي الحرس الثوري ضمن "الفريق الاستشاري" الإيراني العامل في سورية. وفيما لم تحدّد طهران هويات المستهدفين، ذكرت القناة 13 الإسرائيلية أن الفريق مسؤول عن نقل السلاح من سورية إلى لبنان، لينضمّوا بذلك إلى سلسلة من القادة رفيعي المستوى في الحرس الثوري الذين اغتيلوا خلال الأسابيع الماضية، كان آخرهم رئيس أركان الحرس الثوري سيد راضي في غارة إسرائيلية على منطقة عقربا في ريف دمشق.
الاغتيالات الكثيرة هذه، وبحسب معطياتٍ، تثير انقساماً في إيران داخل المؤسّسة العسكرية حول ضرورة الرد على الاستهدافات الإسرائيلية والأميركية. العديد من الأصوات داخل إيران ترى أن الرد الذي قامت به طهران على اغتيال زعيم فيلق القدس، قاسم سليماني، لم يكن بحجم الحدث الكبير الذي هز طهران، وهو ما فتح الباب على مزيد من الاغتيالات التي تمر دون رد وفق نظرية "الصبر الاستراتيجي" التي تروّجها طهران.
قبل أيام، قرّرت طهران الرد، لكن ليس على هذه الاغتيالات، بل على الاعتداء الذي وقع أثناء إحياء ذكرى اغتيال سليماني في منطقة كرمان، والذي نفذه انتحاريان وتبنته "داعش"، إلا أن إيران حملت مسؤوليته لجماعة "جيش العدل"، والتي تتهمها طهران بأن لها علاقات مع إسرائيل وأنها تستخدم الأراضي الباكستانية منطلقا لشن هجمات عسكرية في إقليم سيستان وبلوشستان داخل إيران. الرد جاء عبر قصف بالصواريخ والمسيّرات لمنطقة سبزكوه بالقرب من مدينة بنجغور في إقليم بلوشستان غربي باكستان. الضربة، والتي تأتي في إطار رغبة طهران في حفظ ماء الوجه بعد كل الاعتداءات التي تعرضت لها، لم تحقق لإيران المراد، بل زادت من إحراج الجمهورية الإسلامية بعدما سارعت باكستان إلى الرد بضرب الأراضي الإيرانية، وفق الحجج نفسها التي رفعتها إيران، إذ أعلنت إسلام آباد قصفها بالصواريخ مناطق في إقليم سيستان وبلوشستان الإيراني بذريعة "ملاحقة الجماعات الإرهابية المسلحة".
الضربة الإيرانية والرد الباكستاني فتحا جبهة جديدة على طهران، كانت بغنى عنها، خصوصاً أن تطورها ممكن أن يقود المنطقة إلى حربٍ واسعة، قد تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية، وهو ما بدا أن إيران تدركه، وهي التي سارعت إلى احتواء الضربة الباكستانية وإعمال القنوات الدبلوماسية لتخفيف التوتر، وهو ما تسعى إليه أيضاً دول المنطقة، وبالتالي فمن غير المتوقع أن تتطوّر الأوضاع على الحدود الباكستانية الإيرانية، لكن التوتر سيترك شرخاً في العلاقة بين البلدين التي مرت بالعديد من الأزمات، لكنها في الفترة الأخيرة وصلت إلى درجة عالية من التنسيق والتعاون.
من الواضح أن هناك خرقاًِ استخبارياً كبيراً تعيشه إيران مع هذه السهولة التي تستطيع فيها إسرائيل استهداف قياديين إيرانيين رفيعي المستوى بشكل متتال وبفارق زمني قليل، وهو ما تتحمل مسؤوليته أيضاً القوات الإيرانية التي أصبحت عاجزة عن تغطية هذا الانكشاف، والذي قد تكون مسؤولةً عنه أطرافٌ أخرى فاعلة في الداخل السوري.
من المؤكد أن طهران غير معنية في الدخول في أي حرب مباشرة، لحسابات كثيرة، لكنها في الوقت نفسه لم تعد قادرة على امتصاص كل هذه الضربات التي تتعرض لها وفق نظرية "الصبر الاستراتيجي"، والتي باتت مثار تهكم حتى من أنصار الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي قد يضطر طهران إلى زيادة تدخلاتها العسكرية المباشرة للرد على استهدافاتها، لكن وفق حسابات مضبوطة جداً لا تجرّ إيران إلى حرب مباشرة. الأمر ليس سهلاً، والنتائج العكسية لنموذج الرد في باكستان لا تزال ماثلة.