الرؤساء الصعاليك
حالَ لفظ الصعاليك ودرَس معناه، وبات مقصورًا على الخسّة والوضاعة والفقر، وكانت له معانٍ حميدة، وأحسبه من الأضداد، حتى إنّ حاتم الطائي، وكان سيد قومه، قال: "غَنِينَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالْغِنَى/ فَكُلًّا سَقَانَاهُ بِكَأْسَيْهِمَا الدَّهْرُ". ومن معانيه القوة والبطش والثراء، فصعاليك العرب هم ذؤبانها. وبلغ من معاوية بن أبي سفيان، وهو أول ملوك العرب وسليل بني أمية، وهم سادة قريش، وحملة لواء الحرب، أنه تمنّى أن يكون عروة صهره، فقال: "لو كان لعروة ولد لأحببت أن أتزوج إليهم". أما عبد الملك بن مروان، المؤسّس الثاني فقال: "ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ممن لم يلدني قد ولدني إلا عروة بن الورد"!
تلفّت حولك إذا لم يؤلمك عنقك من القلق، عزيزي القارئ، وستجد كثيرًا من ملوك العرب صعاليك، سلوم دوغ مليونيرات، من غير أن تكون لهم ثقافة المليونير المتشرّد، التي كسبها من محنته وسيرته ومشقات الحياة، فبلغ المجد في الفيلم الشهير، رؤساء منتخبون بصناديق العسل، أو بالوراثة والأصل، صاغرًا عن صاغر، يثيرون العطف والشفقة، على جاههم وملكهم، وسجاجيدهم الحمراء التي يمشون عليها وهم يجرّون الذيول، وبراذينهم الآلية، وحرسهم وجندهم، وطائراتهم الفاخرة، خذ مثال الولد المعجزة بشار الأسد في عرينه، بشار، الذي نراه في حالين، حاله مع سفراء روسيا وإيران، مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، وحاله بين قادة جيشه وصنّاع براميله.
انظر إلى حال الرئيس اليمني الذي لم يعد رئيسًا، وكان قد اعتكف في بلاد الحرمين، قاضيًا وقته في التبتّل والزهد في الحكم، وإلى عيّه وعجزه. وانظر إلى أستاذ القانون الدستوري المصاب بالجنف، أو إلى حال اللمبي، أشبّ الرؤساء، وأسرعهم مشيًا على السجادة الحمراء، وأبرعهم في قيادة الدراجة، كأنهم كائنات من عيد القدّيسين، يثيرون الشفقة ويدرّون الدموع، أو الرعب والفزع، فهو بين حالين، إما أنه يتوسّل الصدقات من شعبه، أو أنه يتوسّل الكلمات، فتخونه، تخيّله، يتفقّد شعبه كما كان يفعل الملك في الحكايات القديمة متنكّرًا، باحثًا عن أحوال الرعية، فيُغني الفقراء، وينصر المظلومين من بطش عماله، ما إن يرى أحد العمال والكادحين حتى يسأله سؤاله الذي لا يتغيّر، وهو واضع يديه على بطنه في هيئة الصلاة: انت بتكسب كام؟ وإذا تكلم الرئيس الجابي رجوتُ أن يوفقه الله في التعبير والنطق، فهو رئيس مصر، وعزّه عزّ العرب، وذلّه ذلّ العرب، حتى لو كنت أشد الكارهين له.
سرّب ساسة إنكليز قبل فترة فيلمًا وثائقيًا، بالأسود والأبيض من مكتبة الوثائق، لشيخ عربي، تدفقت بلاده بالذهب بالأسود، فطغى، حتى بات يدسُّ أصابع يديه ورجليه في الانتخابات الأميركية، شراءً للذمم وبيعًا لها، وكان يأكل مع ربعه وصحبه، بيده، قبل أربعين سنة، في الفيلم، ويجد مشقّة في تهشيم الثريد وتقطيع اللحم، فغضب الوريث الأمير، واحتجّ على الصور التي وجدها مهينة، وليست كذلك، فعين السخط ليست كعين الرضا، وعين العربي ليست كعين الفرنجي، وكأن الصور التي عُرضت يُراد بها هجاء العرب الذين لا يعرفون آداب المائدة، فهكذا كان يأكل العرب في البادية المقفرة. بل إن الأب المؤسّس للدويلة العربية التي عتت عتوًا كبيرًا، حتى باتت تقود عواصم العرب وتولّي ولاتها، كان كريمًا، يقسم لصحبه اللحم، مثل عروة بن الورد، وكان يمكن لوريثه أن يباهي بكرم أبيه. وللوريث تصريح شهير يقول فيه إنه لم يكن عندهم ماء يشربونه!
صعاليك يستحقون الشفقة، على جيوشهم وحرسهم وشهبهم. أما أستاذ الجنف الدستوري فيبدو أذكى من أصحابه المنقلبين، فقد اختار أن يكتب بالريشة والدواة، ويرسل الرسائل بالبريد المعجّل والحمام الزاجل، على طريقة أسلافه العظام معاوية وعبد الملك بن مروان، ويقتدي بعمرو بن كلثوم الذي حال شعره وتعاورته تصاريف الزمان، فصار أنقاضًا:
إذا بلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ/ بهِ أودَتْ أيادي الظالمينا