الدولة الحداثية في لبنان... بين هدم الأنساق وإعادة بنائها
يشتمل مصطلح الدّولة عمومًا على شبكةٍ مفهوميّةٍ مركّبة، إذ يُعزى تعقيد هذه الشبكة إلى اختلاف التجارب المجتمعيّة والممارسات السياسيّة المتواترة، وما أفضتا إليه من اختصامٍ ثقافيٍّ واقتصاديّ لا سيّما بين الشرق والغرب. تنسحب هذه الإشكاليّة، بشكلٍ بديهيّ، إلى أزمةٍ مفهوميّةٍ لصيقةٍ بهُويّة الدّولة في لبنان، بسبب التغيّرات السياسيّة التي شهدتها هذه الهويّة، جرّاء التكدّس الثقافيّ الذي فرضته حتميّة التاريخ والجغرافيا، وما استتبعها من مُشكلاتٍ جيوسياسيّةٍ وديموغرافيّةٍ وسوسيولوجيّةٍ وغيرها، أدّت إلى تشكُّلِ بنيانٍ هجينٍ ومستضعفٍ من المركَّبات الدّاخليّة والتحالفات الخارجيّة على حدٍّ سواء. ولعلّ هذا البنيان الذي اسمه الدّولة قد تقاذفته على مرّ الأزمنة أيديولوجيّات مستوردة من الشّرق والغرب، أدّت إلى إعطابه والإجهاز عليه، عن طريق استلاب الوعي لدى الأفراد، وتوظيف هذا الوعي لصالح تنازعٍ مجتمعيٍّ - ثقافيٍّ عنيف تحت عنوان صوْن المصلحة الطائفيّة. وغالبًا ما كان هذا التنازع يقود إلى فصامٍ حادٍّ بين المؤسّسات الدستوريّة من جهةٍ، والممارسات (praxis) السياسيّة والمجتمعيّة من جهةٍ أخرى، مما أفضى إلى نُشوبِ توتّرٍ مُربكٍ بين ما لَزمَ أن تكون عليه الدّولة، والمعبَّر عنه صراحةً في الدستور والقانون، وما هو قائمٌ في الدّولة بالفعل، والذي يَجدُ له مسلكًا في ممارسة الفعل السياسيّ.
يتحدّرُ هذا الاغتراب المؤسّساتيّ من إشكاليّةٍ ثقافيّةٍ عميقةٍ تتمحور حول منظور الدّولة. يُستدلُّ إلى المنظور من خلال مصطلح "الأيديولوجيا"، والمُراد في سياق هذا المعنى من لفظة أيديولوجيا، ليس وصفُها عِلمًا للأفكار، إنّما وصفُها نسقًا (system) فكريًّا يعبِّر عن المعرفة المجتمعيّة السّائدة، وذلك انطلاقًا من الفهم الماركسيّ (1818-1883) المتعاقب منذ نقد المخطوطات الهيغليّة، وصولاً إلى مقاربات المدرسة النقديّة في فرانكفورت وازدحام مضامينها. تتجذّرُ إذًا فينومينولوجيا اغتراب الدّولة ومؤسّساتها في لبنان في ثنائيّةٍ ثقافيّةٍ تَتكشّفُ تارّةً في بيانِ الخِطاب العقلانيّ، وتستتر طورًا خلف لاعقلانيّة الفعل السياسيّ على مستوى السلوك المجتمعيّ العام. تتبنّى الثقافة الأولى المفهوم الغربيّ للدولة الحداثيّة والقيم والممارسات المنبثقة منها، محاوِلةً إسقاط هذه التجربة على الحياة السياسيّة في لبنان، فيما تغفلُ الثانية هذا المفهوم بوصفه مخلَّفًا من مخلّفات استعمار الغرب، فتلقى قيَمُ الحداثة لديها ازدراءً رائجًا واستهجانًا واسعَ النّطاق. وثمّة، عطفًا على ذلك، موقفٌ انتقائيٌّ يسعى إلى تسطيح هذا الإعضال السياسيّ، إذ يحتذي نمط المحاججة الرّديئة والهجينة في الفهم، والذي يقوم على مقولة أنّه يستوجب على اللبنانيين استراق ما يناسبهم من قيم الحداثة، وإقصاء ما لا يتلاءم مع أحوالهم ومقتضيات عيشهم.
تحسب الفئة الرافضة لقيم الحداثة أنّ الثقافة الغربيّة تمثّل انحلالًا مجتمعيًّا، وانتهاكًا للإرثيّة الأخلاقيّة، وهدمًا لصوابيّة التقليد
تتحصّن حجّة الفئة المجتمعيّة الأولى بمقولة إنّ مفهوم الدّولة، الذي قذفته الحداثة في الغرب، يشكّل الصيغة المؤسّساتيّة التي يُناطُ بها حفظ حقوق الأفراد وحرّياتهم من دون منازع، كما أنّها تكفلُ حقّ الجماعات في رسمِ سياساتها وتقرير مصيرها، في منأىً عن التدحرج الأيديولوجيّ المتأتّي من الشرق من جهة، والأطماع الكولونياليّة الغربيّة من جهةٍ أخرى. هذا ما بدا جليًّا في الميثاق الوطني عام 1943، وفي صيغته المتجدّدة عام 1990. إلّا أنّ الممارسة السياسيّة لمفهوم الدّولة من هذه الفئة كان مخيّبًا للآمال، بالرّغم من المحاولات الجديّة لإرساء دولة المؤسّسات في خمسينيّات القرن الماضي، سيّما خلال عهد فؤاد شهاب (1958-1964). وبمعزلٍ عن الأسباب الدّاخليّة والخارجيّة التي حالت دون استمرار الحلم الشهابيّ في بناء الدّولة، لا سيّما بعد اندلاع الحرب الأهليّة عام 1975، لم تفلح هذه الفئة المجتمعيّة في عقلنة مفهوم الدّولة، إنّما كانت تكتفي تارةً بمغازلتة مغازلة فيتيشيّة عن طريق الفنّ والشعر والأغنية، وكانت تحمّله طورًا بعض المدلولات الانغلاقيّة والانعزاليّة، التي غالبًا ما كانت تضفي عليه نوعًا من السنوبيّة (snobbism) والعنفوان الزّائف والنّزعة الليبيرتاريّة (libertarian) المتفلّتة.
تنحو في المقابل الفئة المجتمعيّة الثانية إلى تبنّي الرفضيّةِ القاطعة لجميع قيم الحداثة، ولكلّ نتاجٍ ثقافيٍّ غربيّ، بوصفه يشكّل تهديدًا للهويّة الثّقافيّة الشرقيّة الملتزمة بالدّينيّات، تحسّبًا منها أنّ الثقافة الغربيّة إنّما تمثّل انحلالاً مجتمعيًّا، وانتهاكًا للإرثيّة الأخلاقيّة، وهدمًا لصوابيّة التقليد. وكانت هذه الفئة تُلام، في بعض تيّاراتها الشموليّة ووجوهها المتطرّفة، بالونداليّة (vandalism) أو التخريبيّة، من خلال عمليّة التقبيح العبثيّ والمنهجيّ لكلّ ما يتّسم بالاختلاف في الموروثات الثقافيّة الغربيّة، ومحاولة تجويفِها من كلِّ القيم الجماليّة والأخلاقيّة والأدبيّة التي تتّصف بها. يتصدّى هذا النّسق المجتمعي لمفهوم الدّولة المؤسّساتيّة التي تقوم على الحريّات الفرديّة وفصل التشريع بين السياسيّ والدينيّ، إذ ينزعُ هذا النموذج إلى فهمٍ خاصٍّ ومبتورٍ لنشأة لبنان الكبير (1920)، عن طريق اختزال نشأته إلى فَرنَسَة (francization) استعماريّة وثقافيّة تعمّدت اقتطاع الدّولة والمجتمع من بيئتهما الشرقيّة. لذا، تحاول هذه الفئة بلا هوادة إغراق الدّولة في فانتازيّاتٍ أيديولوجيّة، بغية إعادة تموضعها في هيئتها الطبيعيّة الأصليّة وفق مفهومها. أمّا الفئة الثالثة التي تتوسّط هذين النموذجين، والقائلة بالتشبّه الاستنسابيّ بالغرب، فإنّها لا تغدو كونها تشكّل نمطًا إكلكتيكيًّا (eclecticism) رديئًا في الفهم، إذ يشبه هذا الموقف، إلى حدٍّ كبير، فعلَي التسوّق والتبضّع.
يستحيل على أي ثقافةٍ أن تناهض البنية أو أن تناصرها، لأنّ من شأن البنية أن تستوعب الثقافات المتعدّدة في دوائر أصغر منها حجمًا
تنمّ في الحقيقة جميع هذه المواقف والأنساق الفكريّة السائدة عن تقبيحٍ عمليّ لما أرادت الحداثةُ عينها أن تكشفه عن ذاتها. لذا سأتحرّى، في ما يلي، الحجّة الفلسفيّة للحداثة السياسيّة، وبناء الدّولة على قاعدة هدم الأنساق، وما خضعت له هذه الحداثة من تحوّلاتٍ أدّت إلى نقد ذاتها، وبالتالي، نقد مفهوم الدولة - الأمّة (nation-state)، وما إمكانات استجابة الفعل السياسيّ في لبنان لهذه التحوّلات. تستلزم أي مواظبة علميّة جديّة على فهم الفعل السياسيّ في مجتمعٍ ما، بدايةً، الحفر في حقلين رئيسيّين، هما ميدان الإبستيمولوجيا (المعرفة) ودائرة الأكسيولوجيا (الأخلاق)، إذ غالبًا ما يشكّل النشاط السياسيّ امتدادًا عملانيًّا للحيويّة الفكريّة المجتمعيّة والأخلاقيّات المواكبة لها، فقد ارتبطت الوثبة السياسيّة في الغرب، وما استتبعها من تهيئةٍ لمفهوم الدّولة الحديثة، بالقفزات الفكريّة والأدبيّة والأخلاقيّة التي توالت على المجتمع في حقبتي النّهضة والتنوير، ثمّ ما لبثت هذه الحداثة أن فكّكت ذاتها فأمست حداثاتٍ متعدّدة، قامت كلّ واحدةٍ منها على نقد الحداثة السَّالفة لها، فإنّ استتباع "شلّال الحداثات" المتدفّق في المجتمعات الغربيّة، وما رافقه من تحوّلاتٍ في الواقعات السياسيّةٍ، يقود البحث العلميّ إلى التمييز بين مفهومين محوريّين، هما مفهوم "البنية" (structure) ومفهوم "الثقافة" (culture). والمراد من مفهوم البنيّة في هذا السياق هو "الصّيغة"، أي "السكيما" (scheme) الفكريّة المتجانسة التي شُيّدت عليها مؤسّسات الدولة الحديثة، وشُبكت بها مختلف ثقافاتها. أمّا الثقافة بالمقابل، فإنّها تمثّل المحتوى أو المضمون (content) الذي يشتمل على معاني السلوك والمواقف والاتّجاهات المجتمعيّة والدّلالات الناجمة عنها، والتي غالبًا ما تتّسم باللاتجانس والاختلاف والنسيبيّة.
لعلّ لاصلاحيّة الحجّة اللبنانيّة في نقد الدّولة الحداثيّة من جهةٍ، أو تأييدها من جهةٍ أخرى، تكمن في اختلاطٍ مفهوميٍّ لدى اللبنانيّين بين البنيةِ والثقافة، إذ يتسنّى لأيّ ثقافةٍ نقد أيّ ثقافة أخرى أو استلطافها. وفي المقابل، يستحيل على أي ثقافة أن تناهض البنية أو أن تناصرها، لأنّ من شأن البنية أن تستوعب الثقافات المتعدّدة في دوائر أصغر منها حجمًا. ينسحب بالتالي هذا الإعضال الفلسفيّ إلى مستوياتٍ أعلى في الفهم، إذ يتخطّى مسألة الاختصام الثقافيّ أو الأيديولوجيّ، ليطول مفهوم البَراديغم (paradigm) أو"النموذج". ولقد أراد توماس كون (1922-1996)، بواسطة هذا المفهوم، أن يُظهر الخلفيّة التي تتفاعل من خلالها مكوّنات المجتمع في ترسيم وجهات نظرها حول موضوعٍ ما، ومنها المواضيع الأدبيّة والفنيّة والسياسيّة وغيرها. يطرح هذا الرّهان البَراديغميّ مفهوم "اللاقياسيّة" (incommensurability) العلميّة، في مقاربة أزمة الدّولة الحداثيّة في لبنان من منظورٍ أيديولوجيّ. بمعنى أنّ منظور الثقافة لبَراديغم البنية، لا ينبغي أن يتماهى مع منظور الثقافات لبعضها بعضا، ما يجعل فهم مفهوم الحداثة وتحليله لاقياسيًا في المقارنة مع المحاججة التي تتبنّاها الأنساق الفكريّة السائدة في الحكم على الحداثة نفسها. فما الذي يجعل من دولة الحداثة كبنيةٍ أمرًا لاقياسيًّا مع خصوصيّة الثقافة، وأكثر صلابةً منها ومِنعةً؟ لماذا لا يمكن، بالتالي، حصر الحداثة بالأيديولوجيا واختصارها بالثقافة؟ وهل إنّ لاصلاحيّة الثقافة في نقد البنية، تجعل من البنية مكوّنًا عصيًّا على النقد والتفكيك؟
ما يميّز الحداثة كبنيةٍ عقليّةٍ صالحةٍ لتأسيس الدّولة وعقلنتها قدرتها على نقد ذاتها بشكلٍ مستدام
يُسنَدُ مفهوم اللاقياسيّة بين البنية والثقافة إلى تعيينٍ وصفيٍّ دقيق، يمهُرُ البنيةَ بصفتين رئيسَتين، هما الكونيّة (universalism) والنقديّة (criticism)، فيما يؤطِّرُ الثقافة بضروبِ خصوصيّةِ المعنى المتجذّر في التجارب المعيشة، والذي يفضي إلى لاتجانسٍ نسقيٍّ ومعياريّ بين المجتمعات. ينحو هذا الرّهان إلى تنقية مفهومَي الكونيّة والنقديّة من كلّ مضمونٍ ثقافيّ، إذ تنسحب صلاحيّتهما إلى اختبار العقلانيّة الخالصة في استنباط المفاهيم، وإصدار الأحكام، وتصوّر الأفكار. استطاع ايمانويل كانط (1724-1804)، آخر فلاسفة الأنوار، القبض على مفهوم الكونيّة من خلال الظّفر بحكمٍ أخلاقيٍّ مجرّدٍ من المضامين الثقافيّة، عبر تفريغ "العقل الخالص" من المعارف التراكميّة البعديّة (aposteriori) التي أنتجتها خصوصيّات الثقافة، والاقتصار على الفطنة القبليّة (apriori) التي فُطِرَ عليها العقل. ولقد حذا حذوه جان بياجيه (1896-1980) في ميدان السيكولوجيا، من خلال ترسيمه المسار الكونيّ للنموّ العقليّ، وتعيين مراحل التطوّر المعرفيّ لدى الأفراد والمجتمعات، على نحوٍ يتّسم بالتجانس والاتّساق. إنّ ما تحسبه الأيديولوجيا، في المقابل، معتقدًا يتّصف بالكونيّة، سيّما المعتقدات المرتبطة بالدّينيّات، لا يشكّل سوى عمليّة إسقاطيّة قد أُتقِن استخدامها لغايات الهيمنة الثقافيّة والاستعماريّة، إذ غالبًا ما تبرّر الأيديولوجيّات سلوكها، من خلال الذّريعة الكونيّة لمصداقيّة المعتقد وتأبيد صلاحيّته الزمانيّة والمكانيّة.
أمّا السّمة الأخرى للبنية الحداثيّة هي النقديّة، إذ تمثّل هذه السّمة، على غرار الكونيّة قرينتها، نتاجًا من نتاج العقل الخالص وآليّاته المُدمجة عفوًا بأصوله الفطريّة. بعبارةٍ أخرى، ما يميّز الحداثة كبنيةٍ عقليّةٍ صالحةٍ لتأسيس الدّولة وعقلنتها قدرتها على نقد ذاتها بشكلٍ مستدام. تعود أصول هذا النقد إلى الصّفة البحثيّة - الاستقصائيّة للعقل البشريّ التي تتعارض مع الوضعيّة المعرفيّة التي قامت عليها الأنساق الأيديولوجيّة في سبيل تحصين ذاتها، وتبرير سلوكها، وتوطيد منعتها الثقافيّة. لذا، تكمُن مصداقيّة النقد في كونه منوطًا بآليّات استنباط البراهين من خارج النظّام المعرفيّ السائد، في حين يستحيلُ على الأيديولوجيا الاستدلال من خارج دوائرها الثقافيّة وأجهزتها المعرفيّة، بوصفها تمثّل صوابًا موروثًا عصيًّا على النّقد والتفكيك. هذا ما حدا بالحداثة إلى نقد الثقافات السّابقة لها، ومكّنها من صلاحيّة نقد ذاتها بشكلٍ متواصل. يؤكّد يورغن هابرماس (1929)، فيلسوف ما بعد الحداثة والملقَّب بـ"هيغل دولة ألمانيا الاتحاديّة"، وعلى نحوٍ قاطعٍ، أنّ المدخل الأساس لنقد الحداثة هو الحداثة عينها، لأنّها وحدها تنطوي على آليّات النقد التي تؤهّلها من نقد ذاتها، ونقد تحوّلاتها المتعاقبة، فالحداثة برأيه هي مشروعٌ قيد الإنجاز ولم ينتهِ بعد، إذ تتحصَّن ديناميّة هذا المشروع في ما يوفّره "الفعل التواصليّ" من عقلانيّةٍ نقديّةٍ، تؤسّس لشروط التفاعل الهادف في الحياة السياسيّة. كيف تُمسي إذًا مفاهيم الحداثة ضروريّةً لمشروع إعادة بناء الدّولة في لبنان؟
الوثوق بالبنية الحداثيّة لا يهدم قطعًا التنوّع الثقافي في الدّاخل، إنّما من شأنه أن يصون هذا التنوّع على نحوٍ مؤسّساتيّ
انطلاقًا ممّا تقدّم، ليس المراد إطلاقًا تبنّي مضمون ثقافة الغرب في مشروع بناء الدّولة في لبنان، إنّما المطلوب هو اعتماد البنية الحداثيّة الغربيّة أداةً لسير عمل المؤسّسات، وتنظيم اللاتجانس والاختلاف في المجتمعات ذات الطبيعة المركّبة، والتي هي حال المجتمع في لبنان. فالوثوق بالبنية الحداثيّة لا يهدم قطعًا التنوّع الثقافي في الدّاخل، إنّما من شأنه أن يصون هذا التنوّع على نحوٍ مؤسّساتيّ، يحول دون الاختصام العبثيّ، القديم - المتجدّد، بين الطوائف والمكوّنات المجتمعيّة. يترتّب بدايةً على هذه البنية الحداثيّة التخريب المؤقّت لهويّة الدّولة القائمة، عن طريق هدم الأنساق. والمراد من هدم الأنساق تجويف الدّولة من جميع معاني الانعزاليّة الطائفيّة، وتفريغها من جميع دلالات الرّومانسيّة القوميّة، وعزلها برهةً عن محمولاتها الجغرافيّة والتاريخيّة والأيديولوجيّة، في سبيل إعادة بناء المؤسّسات وعقلنتها عبر فعلٍ تواصليٍّ بنّاءٍ وهادف. ويشترط هذا الفعل اختزال مفهوم الدّولة آنيًّا إلى حدوده البراغماتيّة، المتمثّلة بالصّيغة الأوليّة التي تحفظ مصالح الأفراد في وجودهم، وهواجسهم الأنطولوجيّة، وواقعهم المعيش. ينتج عن هذا الفعل التواصليّ صكٌّ أوّليّ لعقدٍ تأسيسيٍّ جديد قوامُه صون مصالح الأفراد، يرعاها قانونٌ وضعيٌّ عقلانيّ، قابلٌ للتحديث والتطوير عبر أدوات النّقد وآليّات التواصل الديمقراطيّ. بعد الفراغ من تحصين مصالح الأفراد، ينسحب الفعل التواصليّ إلى ورشةِ تخصيصٍ دستوريّة، لتنظيم مشروعيّة اللاتجانس الثقافيّ في المجتمع، وقد تكون الصّيغةُ اللامركزيّة إحدى أبرز مندرجات هذا التخصيص. تتيح هذه الصّيغة إعادة بناء الأنساق المجتمعيّة عبر التفاعل المنظّم بين المكوّنات الثقافيّة، على صعيد الاقتصاد والخدمات وأساليب العيش، من دون المساس بالمصالح الفيدراليّة العليا للدّولة القائمة على مسلّماتٍ ثلاث: مصالح الأفراد، السياسة الخارجيّة المتجانسة، والسياسة الدّفاعيّة الموحّدة.
في الختام، خلاص الدولة في لبنان وديمومتها منوطان بعقلنة المؤسّسات، وبردم الهوّة القائمة بين النّصوص الدستوريّة والممارسة السياسيّة. وبالتالي، عودة الدّولة من رحلة اغترابها الطويلة. وإذا كان شأن البنيان العقلانيّ للدّولة حماية الثقافات المنضوية في كنفه، فإنّ مصلحة هذه الثقافات تكمن في عدم التعملق على هذا البنيان، الذي يشكّل بقاؤه ملاذًا آمنًا للأفراد، ومنفعةً مشتركةً لدى الجماعات المكوّنة له، ففي التحصين العقلانيّ للدّولة ضمانتان. تتبدّى الأولى في عمليّة احتضان الدّولة للثقافات المكوّنة لها تحت غطاء المؤسّسات، وبمعيّة الآليّات الديمقراطيّة وشروط الفعل التواصليّ. أمّا الثانية فتنطوي على ترسيخ منعة الدّولة أمام تفلّت النفعيّة الطائفيّة الداخليّة، وتوطيد صمودها أمام الأطماع الخارجيّة التي تستثمر في الانقسامات الدّاخليّة لتحقيق مصالحها.