الدولار الحلال
اعتادت السلطة المصرية الحالية على ارتكاب أخطاء ساذجة، تضعها في حرج بالغ أمام المصريين. ولكن يبدو أن أولي الأمر لا يتعلّمون من السوابق ولا يتعظون حتى من أنفسهم، فالحديث الدائر في مصر حالياً يتركّز على استيراد الحكومة شحنة دجاج مجمّد، وضخّها في الأسواق بسعر أقلّ بحوالي 30% من أسعار الدواجن المحلية. وتعد الخطوة مبادرة إيجابية، هدفها خفض الأسعار التي تجاوزت قدرات غالبية المواطنين، بسبب تقييد الدولة استيراد الأعلاف واضطرار مزارع عديدة للدواجن إلى الإغلاق. غير أن التحرّك الرسمي جاء مشوباً بأخطاء ليست جديدة على عقلية الحكم الحالي في مصر، الذي يتسم بالعنجهية، ويهوى التعالي على المواطنين، فقد فوجئ المصريون بطرح الدجاج المستورد في الأسواق، من دون إعلان مُسبق أو تمهيد للرأي العام بوجود خطّة أو تحرك عملي لمواجهة الأزمة والحد من غلاء اللحوم البيضاء. ويعلم أي اقتصادي أو متخصّص في تجارة الأغذية مدى حساسية الأسواق واستجابتها السعرية لبث أنباء عن تدخل الدولة وزيادة المعروض السلعي، من قبل بل ومن دون تنفيذ ذلك فعلياً.
ولكن قصة الدجاج البرازيلي لا تنتهي هنا، فقد طرحت الدولة الكمّية المستوردة بسعر حوالي دولارين للكيلوغرام، وهو أقل بحوالي 25% من سعر الدجاج المحلي. وكان لهذا الفارق تأثير إيجابي على الأسواق، فانخفضت الأسعار نسبياً بعد أيام فقط. إلا أن الخبثاء ممن يتشكّكون دائماً في تحرّكات السلطة المصرية والنوايا الخفية وراءها راحوا ينقبون عن خبايا الصفقة. واتضح أن السعر الذي ابتاعت مصر به من البرازيل أقل من 40 سنتاً للكيلوغرام. وبعد إضافة تكلفة الشحن، يظل السعر الذي يباع به الدجاج البرازيلي (دولاران للكيلوغرام) أربعة أضعاف إجمالي تكلفته. ولأن المستورِد هو السلطة المصرية نفسها، فلا جمارك ولا ضرائب ولا أية رسوم أخرى تُضاف خلاف ثمن الصفقة وتكلفة الشحن.
ومن هنا، بدأت تتردّد تساؤلات على وسائل التواصل الاجتماعي، بشأن دواعي هذا الفارق الشاسع بين سعر الاستيراد وسعر البيع ومبرّراته، ومآلات القيمة المالية الخاصة به. لكن جوانب الإثارة والتشويق لم تنته هنا، وإنما امتدّت إلى ملابسات عملية الاستيراد، فقد كان سبب ارتفاع أسعار الدواجن هو نقص الأعلاف، لأنها تستورد من الخارج، ولا يوجد ما يكفي من الدولار لتغطية تكاليف استيراد الأعلاف مع سلع أخرى شديدة الأهمية، فصار السؤال المنطقي، من أين وُجدت الدولارات التي تم بها استيراد الدجاج البرازيلي؟ وهو ما استتبع بدوره أسئلة أخرى بشأن عدم تخصيص تلك المبالغ الدولارية لإدخال شحنات العلف المتراكمة في الموانئ منذ أشهر. ولمّا كان الشحن البحري من البرازيل إلى مصر يستغرق بضعة أشهر، فمعنى ذلك أن الاتفاق على توريد الدجاج البرازيلي جرى مع بدايات أزمة نقص الأعلاف، إن لم يكن من قبلها.
وبعد أن اضطرّ كثيرون من مُربّي الدواجن إلى تصفية أعمالهم، وهناك آخرون على الطريق ذاته، فإن الاستيراد قد يخفّف أزمة الغلاء مرحلياً، لكنه يظل بديلاً مؤقتاً ومكلفاً لا يحل أزمة هذا القطاع الغذائي المهم، وإنما يفاقمها بالاعتماد على الوارد من الخارج وتصفية الإنتاج المحلي.
ربما تمتلك الحكومة المصرية إجابات شافية على هذه التساؤلات المنطقية، وكان واجباً عليها ودرءاً للشبهات توضيح تفاصيل تلك الإجراءات وأسبابها في الوقت المناسب، أي قبل الإقدام عليها. لكنها وبكل أسف لا تقدّم أي تفسيرات لما تقوم به لا قبل ولا بعد. كما لو كانت غير معنية بإقناع المصريين بما تفعله، وعليهم قبول إجراءاتها، سواء كانوا راضين أو مرغمين. أما الدولار الذي صار عصيّاً بل مُحرماً على المصري، مستهلكاً كان أو مُنتجاً، فهو لصفقات السلطة ومكاسبها، حلال حلال حلال.