الدنيا دوّارة
يقول الشاعر بشار بن برد في مطلع قصيدته "إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي تعاتبه". وقد سبق في طرحه هذا خبراء التنمية البشرية وعلماء النفس والاجتماع، حين اقترح وصفة سحرية لعلاقة الصداقة، أساسها القبول والتسامح والتغاضي. المرونة في التعاطي مع الأصدقاء مسالة ضرورية، ذلك أنهم يختلفون ويتنافرون، ويرتكبون الأخطاء والهفوات التي يمكن تجاوزها بسهولة، طالما أن جوهر العلاقة قائم على المحبة والإخلاص، لكن ذلك قد يصبح مستحيلا في لحظات ضعفٍ قاسية مفصلية، تمر في حياة كل منا، كفيلة بتغيير مواقفنا من الآخرين، لحظات يمكن اعتبارها اختبارا مجانيا سخّرته الحياة لنا، كي نفيق من أوهامنا الوردية التي تضللنا في أحيان كثيرة، وتجعلنا نهبا لغير الأنقياء من المنافقين الانتهازيين غير الأوفياء.
لا أحد منا في منأى من التعرّض للأذى. نكتشف ذلك في مواقف الشدة التي تجعلنا في حاجة إلى معونة الأصدقاء وتضامنهم ودعمهم، لنكتشف فجأة، وبشكل صادم، أننا وحدنا بالمطلق عندما تتكشف لنا معادنهم على حقيقتها، أولئك الذين يغرقوننا في لحظات الرخاء بالمجاملات والاهتمام وادّعاء الاكتراث الذي لا يتجاوز حدود الألفاظ المنمقة الكاذبة هم أنفسهم سرعان ما يتلاشون، يتنكرون لك، ويتخلون عنك، من دون أدنى تأنيب ضمير، أو خجل من أنفسهم. يزيد المشهد قبحا حين نكون على النقيض في تعاملنا معهم، نساندهم في أوقات شدّتهم، ولا نبخل عليهم بكل أشكال الدعم، حتى ينهضوا من كبوتهم. موقف صعب عصيب، كل منا تعرّض له في مرحلة من حياته، فأفقده توازنه النفسي، ونزع عنه القناعة بمن توهمهم السند والحليف. وهنا التحدّي الأكبر أمام أنفسنا. هل علينا، إزاء ذلك التخلي، أن نكفر بكل القيم الإنسانية من محبة وتضامن وتعاطف، ونعلنها خيبة أمل لا رجعة عنها، ونعترف بغبائنا وسذاجتنا وسهولة تعرّضنا للخديعة والاستغلال، أم علينا أن نواصل الرهان على أولئك القلة القليلة النادرة التي لا تبدّلها الأيام، وتتمسّك بجمرة المروءة والشهامة، في زمنٍ تراجعت فيه كل القيم النبيلة، ما يحصّننا من إعلان الهزيمة الكلية، واتخاذ قرار الابتعاد والنأي بالذات بعيدا عن شرورهم.
وعلى الرغم من قسوة الحالة، ثمّة مزايا إيجابية لها، لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، كونها تمنحنا فرصة للنضج والتخلص من البراءة وحسن الظن بالجميع من دون تمحيص وتدقيق وتأمل، ذلك أن وضع الثقة في غير أهلها حماقة كبرى. علينا أن نبدي وعيا أعلى وقدرة أكبر على التمييز والانتقاء. وهنالك نموذج مثير للعجب، من فرط تردّده ممن يختار التغاضي عن مشاعر الغضب والخيبة، تحت عنوان التسامح والتماس الأعذار. مثل هؤلاء ممن لا يملكون القدرة على الحسم ووضع الأمور في نصابها الصحيح، حين تتضح لهم خصال الغدر والخيانة من مدّعي الصداقة، لرعبهم من خسارة الصديق، حتى لو ثبت، بالدليل، عدم جدارته مما يحيله إلى الطرف الضعيف المهزوم في العلاقة التي يُفترض بها توفر عنصر الندّية، فيظل مرعوبا يفتقد الشجاعة والقدرة على المواجهة والانتصار لذاته، ما يعرّضه إلى مزيد من الاستغلال والامتهان والاستخفاف وقلة الاحترام. من هنا، علينا إبداء كثير من الحسم والوضوح والمواقف المبدئية إزاء من خذلونا، والأهم من ذلك كله الاحتفاظ بحق المعاملة بالمثل، سيما أن الدنيا دوارة، لا تبقي شيئا على حاله، وقد عبر عن ذلك ببلاغة الشاعر أحمد رامي، في ترجمته "رباعيات الخيام"،حين قال: .../ فليس في طبع الليالي الأمان.