الدراما العربية خسارة مُضافة لهزائمنا الكبيرة
ليس خافيا أن هناك جهات إنتاجية وتسويقية هي المسيطرة الوحيدة على معظم المنصّات المختصة بعرض الدراما العربية، سواء في أوقات الذروة الدرامية كشهر رمضان، أو خارج أوقاته. سيطرة كاملة قادرة على فرض ما تريده من الشروط على مجمل الإنتاج الدرامي العربي، وهو ما نراه متمثّلا في نوعية الدراما المطلوبة حاليا والتي يتم التركيز عليها: مواضيع مكرّرة ومقلّدة للدراما التركية أو المستنسخة عنها، تتحدّث عن صراعات حول المال والخيانات الزوجية والعاطفية والمؤامرات والدسائس النسائية، ينتمي أبطالها إلى طبقات لا تعرف عنها الشعوب شيئا. نساؤها (الممثلات) على هيئة الباربي بملامح بلاستيكية من فرط عمليات الشد والنفخ والنحت، كما لو أنهن نسخة واحدة، وما يقدّمنه صورة مهينة للمرأة العربية التي تتركّز أقصى اهتماماتها بالكيد للمحيطات بها، قصد الفوز بالبطل الساحق الماحق الذي تعشقه كل النساء في المسلسل. أما المشكلات الحقيقية في المجتمعات العربية فلا وجود لها في هذه الدراما المبسترة، لا وجود لا للفقر ولا للقمع ولملايين اللاجئين بكل ظروف حياتهم الصعبة والقاسية، لا وجود للجهل وللأمراض وللتفكّك المجتمعي ولعمالة الأطفال والتسوّل، ولا لكلّ ما خلفته الحروب والاستبداد والقمع والفساد السياسي والمالي والتغيرات الكبرى التي طرأت على مجتمعاتنا البائسة بعد 2011. يتركّز البؤس في الدراما الحالية في هزيمة امرأة علي يد أخرى فازت بقلب البطل وبأمواله.
وللأسف، أكثر الخاسرين في هذا الاحتكار هي الدراما السورية التي تدمّرت في سورية بعد انقسام صنّاعها حول الثورة واضطرار معظمهم إلى الخروج والبقاء، تقريبا، بلا عمل، خصوصا مع تأييد معظم شركات الإنتاج للنظام السوري، أو في الحقيقة هو تأييد رأس المال للرؤية المناسبة له والمتمثلة بمناهضة انتفاضات الشعوب العربية ضد الأنظمة الحاكمة ومحاولة طمس كل ما يتعلق بالثورات، وإلغاء أي ذكر لها في الإنتاج الدرامي العربي، كما لو أنها لم تحدُث يوما. أفرزت هذه الخسارة لصناعة الدراما في سورية نوعا من الدراما المشتركة العربية، السورية اللبنانية، المطابقة، كما أسلفنا، للدراما التركية؛ لم ينج منها سوى بعض الإنتاج الدرامي المصري، بسبب عراقة هذه الصناعة في مصر، والتي تبدأ، للأسف، بالتراجع حاليا، بسبب المشكلات الاقتصادية الكبرى في مصر، التي سهلت لشركات الإنتاج الكبرى الحالية استقطاب صنّاع الدراما المصريين، وسحب البساط من تحت أقدام هذه الصناعة، تحت طائلة عدم تسويق العمل الذي يرفض صناعه شروط تلك الشركات.
يخسر عالمنا العربي، من ضمن ما يخسر، صناعة مهمّة جدا، كان يمكن أن تكون القوة الناعمة الأكثر تأثيرا في التغييرات المرجوّة لمجتمعاتنا علي الصعيد الاجتماعي التنويري بشكل خاص. وحين نتحدّث عن التأثير التنويري، فإن الانفتاح الحادث حاليا في الدراما الرائجة لا يمتّ للتنوير بصلة، كما يتم ترويجُه، فالتنوير الحقيقي هو ربط الوعي بمشكلات المجتمع ومحاولة تفكيكها علمياً بعيداً عن الأيديولوجيات بمختلف أنواعها، والسعي إلى اقتراح حلول مناسبة تقدّم بطريقة سلسة وممتعة، وتدخل إلي عقل المشاهد، مهما كان مستوى الوعي لديه، بأكثر الطرق فعالية ومتعة، وهو ما تفعله، بكل جدّية، بعض إنتاجات الدراما العربية القليلة. أما ما يُقدّم من استعراضات للأجساد والملابس والعلاقات الجنسية المفتوحة في الدراما الحالية فهو الوجه الآخر للشروط القديمة التي فرضها رأس المال المسوّق للعمل الدرامي في القرن الماضي، تلك الشروط التي كانت تقدّم المجتمعات العربية في الدراما مبسترة أيضا، فلم تكن هنالك خياناتٌ ولا علاقات جسدية ولا تلامس، حتى بين الإخوة والأزواج في المسلسلات، ولا قُبل ولا سجائر ولا كحول، وفي الوقت نفسه، بلا عمق اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي (نتذكر جميعا دفتر شروط الدراما الذي كان يتم تداوله في تلك الفترة)، لم تغيّر شركات الإنتاج والتسويق (التي هي نفسها بالمناسبة في القرنين الماضي والحالي) من رؤيتها الأحادية للدراما العربية، ولما يجب أن تكون عليه، هي فقط ألغت "تابو" العلاقات الجنسية من شروطها، ليبقى الإنتاج الدرامي العربي بالسطحية نفسها التي كان عليها في نهايات القرن الماضي، مع ابتذال للأنوثة شكلاً ومضموناً.
مؤسفٌ جدّاً ما يحدُث للدراما العربية وصنّاعها، ومؤسفٌ ألا تلقى التحذيرات من انهيارها ودخولها في نفق الابتذال آذاناً صاغية. ولكن عن أي آذانٍ نتحدّث هنا، ما دام الفشل والانحطاط والانبطاح سمة هذا العصر العربي من السياسة حتى الفن والترفيه؟