الداشر والشَموس في عالم السياسة
بإمكان فلاديمير بوتين أن يسمّي حربَه على شعب أوكرانيا ثورة. ثورة روسية، أو أوكرانية، أو أن يكون متشبعاً بفلسفة المرحوم معمر القذافي، مثلاً، فيسمّيها الثورة الروسية الأوكرانية الجماهيرية الديمقراطية العظمى. هو حرٌّ في ذلك طبعاً، لأن مفهوم الثورة داشر، ومفردة الداشر عربية فصيحة، تعني المتفلِّت، السارح، الشائع. صفة كانت تُطلق على الحيوان الذي لا صاحبَ له، ولا رسن، ثم طُوّرت فصارت تطلق على الإنسان. وللشاعر السوري الراحل، فايز خضور، قصيدة عنوانها الداشر، تبدأ بقوله: رجلاً عاقلاً كان، دَشَّر أهله وصحبه. بمعنى: تحرّر.
أهل بلدتي، معرتمصرين، يصفون الداشر بأنه "مشلِّط"، وهي الأخرى صفةٌ مأخوذةٌ من عالم الحيوان، فأحياناً يثور حيوانٌ أليف، ويتمكّن من التخلي عن رَشمته (ما يُلف على رأسه) ولجامه، ثم يهرُب، وهذه العملية تسمّى التشليط. وكان الرجال المعادون لحرية المرأة إذا شاهدوا سيدةً لا ترتدي كما يحبون ويشتهون، يبادرون إلى إهانتها باستخدام عبارة "فلانة مشلّطة". وأحياناً لا يقوم الحيوان الملجوم بفعل التشليط من تلقاء نفسه، بل يلجأ صاحبُه إلى تشليطه عندما يشيخ ويصبح مستهلكاً. يقول الأب لابنه، مثلاً: يا ابني خذ الحمار إلى البيادر، شلطه، وأفلته. وهذا عملٌ منافٍ للقيم الإنسانية الرحيمة بالطبع. ومما يرويه الباحث الكويتي، هشام العوضي، في كتابه "تاريخ العبودية في الخليج العربي"، أن بعض السادة كانوا يُعتقون العبد حينما تتقدّم به السن، فيحزن، ويطالب بإعادته إلى العبودية، لأن العتق، في هذا العمر، يعني أن يصبح غير قادر على تأمين لقمة عيشه التي كانت مؤمنة عند السيد.
على منوال داشر، هناك كلمةُ شَمُوس، وتقال للبغل الشرس، وأحياناً تطلق على الحاكم الديكتاتوري الذي يفتح فمه، ويهدِّل أذنيه وأعضاءه، ويحتفظ بحقّ الرد حينما تعتدي عليه دولة قوية، وحينما يتعلق الأمر بشعبه يهيج، ويموج، ويزمجر، ويرفس (بالجوز)، وكأنه ثورٌ دخل إلى فاخورة، على حد تعبير معلمنا عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، فإذا تمكّنتَ من إخراجه من الفاخورة، بعد طول صراع وعراك، ستجد أنه هرس كل شيءٍ بقرنيه وقوائمه.
البغل العاقل يخدم صاحبه في أمور كثيرة، وأما الشَمُوس فلا يأتي منه سوى الضرر، إذ قد يصيب، في أثناء ثورته (وعَنْطَزَتِهِ)، رجلاً، أو امرأة، أو طفلاً، أو يعجق في حقل الجيران، فيتلف الزرع، أو يسفح أواني الحليب، ويمزّق أكياس الزيتون. وأما مالكُه فيصبح، بسببه، زبوناً مداوماً في المخافر والمحاكم، حتى إن عمي "أبو النمر البايملي" اضطرّ إلى ذبح بغله الشموس، عندما تسلَّمَ تبليغةً من المحكمة تفيد بأنه، أي البغل، كان السبب في إجهاض زوجة جاره، حين رَمَح أمامها على حين غرّة، وعندما مثُل أمام القاضي وضع يده على المصحف، وحلف على أنه لا يمتلك بغلاً، ولا نغلاً، ولا حتى كديشاً.
في بازار الأربعاء بإدلب، كان البغلُ العاقل يُباع بثمن ممتاز، أما الشموس فيدفع فيه ثمن زهيد. عن هذه الفكرة، كتب الأديب الراحل، حسيب كيالي، قصة جميلة، تتناول سمسار دوابّ اشترى بغلاً شموساً لونه أحمر، بثمن بخس، وفي إسطبله، صبغه بلون أسود. وفي صباح الأربعاء التالي، سقاه كمية مبحبحة من الحشيش، فانسطل. وفي البازار باعه على أنه عاقل، للرجل نفسه الذي اشتراه منه. وبعد ساعات، زال مفعول الحشيش من مخيخ البغل، فعادت إليه شموسته، فعنطزَ، وصار يرفس بمعدل مئة رفسة في الدقيقة، حتى تعرّق، وبدأت الصبغة تتحلل عن جسمه، وعاد إليه لونه الأصلي، ووقتها أيقن الرجل أنه وقع ضحية عملية احتيال موصوفة.
هذا ما نراه اليوم، مع الأسف. الشموس يبدو عاقلاً، والمصبوغ يُباع بثمن مرتفع، والاحتلال يسمّونه ثورة، والمرتزقة صاروا ثوّاراً، والمفلسون صاروا أغنياء، وكل من يقول لك إن بوتين يفيد بلاده لا تصدّقه، والشعوب هي الضحية.