الحنين إلى الطربوش
لوهلةٍ ما، اعتقدنا أن ألقابا مثل "بيك" و"باشا" قد أصبحت من التاريخ، فقد حصل، بعد بداية القرن الماضي، ما اعتقدناه نهضة ثقافية أودت بهذه الألقاب البالية التي منحتها في غالبها سلطة احتلال لقاء ولاء هذا الشخص أو ذاك وأتباعه، أو لقاء خدمات قدّمها هذا الشخص، غالبا قذرة، وفي أحسن الأحوال غير مشرّفة. وقد منح هذا اللقب الشخص سلطةً مارسها الباشوات على أقذر وجه، بسلوكاتٍ ليس أقلّها الاعتداء على أعراض الفلاحين ونهبهم واستغلالهم وقمعهم، وغير ذلك من تصرفاتٍ لا يمكن لشخص فيه ذرّة ضمير وشرف أن يمارسها. ربما لو أتيح لتلك النهضة التي بدأت مع بداية القرن الماضي أن تستمر لكنا بالفعل تخلصنا من هذه الألقاب إلى الأبد. فبوجود صحافة حرّة وأحزاب مستقلة تحترم اللعبة الديمقراطية، وبوجود القانون وسلطة قضائية مستقلة، وبرلمان حقيقي، وانتخابات نزيهة، وغير ذلك من مستلزمات الديمقراطية، كان الممكن للمواطن أن يصبح مواطنا حقيقيا، ويتجاوز عصر العلاقات الإقطاعية، غير أن استيلاء العسكر على الحكم أطاح كل هذه المنجزات التي لم يُكتب لها أن تعمّر طويلا لكي نحصد نتائجها، فقد أطاح العسكر الصحافة (سورية والعراق نموذجا).
على سبيل المثال، مجلة المضحك المبكي الكاريكاتيرية الساخرة التي أسّسها حبيب كحالة عام 1918 في دمشق كان يتم إغلاقها بقرار قضائي أشهراً، عقوبة على نشرها مادة تعتبر مسيئة لأحد ما، أو لجهة ما، ثم تعود إلى الصدور دورياً، كما كانت عليه قبل ذلك، حتى جاءت "ثورة" الثامن من آذار التي أغلقت المجلة بشكل نهائي من دون ذكر المبرّرات. أما الأحزاب فقد تم تقزيمها والقضاء، عبر القمع، على ما لم يخضع لشروط السلطة منها. باختصار، تم إيجاد فراغ سياسي واجتماعي، لم يكن يحتاج لأكثر من فرصة سانحة لينهار على رؤوسنا، كما هو الحال عليه الآن، ناهيك عن تدمير المنظومة القضائية والبرلمانية، وجعلها كلها ذيولا للسلطة الحاكمة. وبدلا من القضاء المستقل، أصبحت الغلبة للمحاكم الميدانية. أما الأحزاب التي تقزّمت ضمن تحالفاتٍ مع السلطة، فقد كانت محرومةً حتى من إصدار صحيفةٍ ناطقة باسمها، وعاجزة عن القيام حتى بمسيرة تأييد للسلطة. ولذلك تعرّضت لتسرّب كبير في أعضائها وجماهيرها، وصار همّها الحفاظ على الحد الأدنى من هذه الجماهير، إلى درجة أن قيادة أحد الأحزاب العلمانية الثورية تدخلت في فض حبٍّ بين شاب وفتاة، ينتميان إلى حزبها، بعد أن حضر وفدان من أهل الحبيبة والحبيب، وقابلوا الأمين العام لكي يوقف هذا الحب. وهذا ما فعله الأمين العام، لكي لا يخسر الحزب المزيد من جماهيره.
وعندما حانت ساعة الانهيار، عدنا بالسرعة القصوى إلى زمن الإقطاع، فبدون أي خجل نشاهد أسرة ترث قيادة حزبٍ، يعتبر من أكثر الاحزاب ثورية، بحسب مبادئه، ولكن تبين أنه لم يكن سوى منظومة لا تختلف عن الإقطاع بشيء. وعلى صعيد المثقفين، أخذ كثيرون يبحثون كل عن طربوش جدّه، وأصبح من المألوف أن تشاهد كاتبا أو شاعرا أو مثقفا يتلفع بعباءة قريبه الباشا، وصرنا نرى في الحديث عن الباشوات عبارات مثل "هزاع الأول"، أو ما شابه، وكأن هزاع هذا جنكيز خان أو نابليون بونابرت، فيما هو شخص لا تتجاوز صلاحية هيبته القرى السبع المجاورة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على هشاشة هؤلاء المثقفين وضحالتهم. ولأن البيك أو الباشا عادة ما يكون باشا المناسف والطبيخ، لا نرى بين مآثره أكثر من منسف كثير الحلقات، فإن هؤلاء المثقفين أيضا يمكن اعتبارهم مثقفي الطبيخ والملاحي والثريد، مثلهم تماما الأحزاب الكرتونية بيسارها ويمينها.
بسلوكنا هذا لا ننتمي الى العصر الحالي، وطالما أن هناك باشا كرتونيا على الأغلب يقع تحت سلطة أمنية تشرف عليه، يلتفّ حوله الناس، بدل التفافهم حول فكرة أو حول مشروع ثقافي، فإننا لا نستحق أكثر من العصور الوسطى منطقةً ننتمي إليها في التاريخ. ومن نافل القول إنه لكي نتجاوز هذه المرحلة، يجب أن تنتهي مسبّباتها الأساسية المذكورة أعلاه.