الحص والقدّومي وهذه المفارقة
اجتمع رئيس وزراء لبنان الأسبق، سليم الحص (94 عاما)، والمؤسّس في حركة فتح رئيس الدائرة السياسية في منظّمة التحرير الفلسطينية عقوداً، فاروق القدّومي (93 عاما)، في أنها أيامٌ ثلاثة فقط بين وفاتيْهما أخيراً، رحمهما الله، وفي أنهما قريبان جدّاً في عمريْهما. غير أن الجامع بينهما، الأدْعى إلى الالتفات إليه، ما وُصفا بها من مناقب كانا عليها، وأبرزُها عروبيّتهما ومبدئيّتهما في معاداة إسرائيل ونُصرتهما المقاومة، وكذا نظافة اليد ونزاهتهما في غير شأن. وقد جاء ناعوهما على كثيرٍ مما أقاما عليه من شمائل، لم يكن الإتيان عليها من التزيّد المعهود في المراثي وإنشائيات الفقد، وإنما تأشيراً حقيقيّاً إلى ما تحلّيا به في عملهما العام، اللبناني والفلسطيني. وقد تركّز الحديث عن فاروق القدّومي على مناوأته اتفاق أوسلو، الذي رآه "خيانة" للمبادئ التي قامت عليها منظّمة التحرير، فآثر البقاء في الخارج (تونس وعمّان)، فلم يدخل إلى الأراضي الفلسطينية، على غير ما فعلت القيادات الفلسطينية، وعلى غير ما سلكتْه أيضاً شخصياتٌ مناضلةٌ ناهضت الاتفاق المذكور. أما الرئيس الحص، فذهب الحديث الأوسع عن شخصِه المحترم إلى مناوأته الفساد في بلده، وزُهده الشخصي، وثباته على مبدئيّته في غير ملفٍّ في بلده، ولبنانيّته التي لم يُلحظ فيها أيُّ نزوع طائفي، وصلابتُه في غير موقف، وعدم الدقّة في صورةٍ عنه أنه كان من أتباع سورية في لبنان. وفي الوُسع أن يُستطَرَد في هذا كله بشأن هذا الرجل الذي لا أظنّهم غالوا من جعلوه من أيقونات لبنان النادرة، وسمّوه "ضمير لبنان".
وليس استرسالاً في مسألة المماثلة بين الفقيدين الكبيرين أن يُشار إلى أنهما اجتمعا أيضا في أنهما انسحبا، منذ عقدين أو أكثر قليلا، من الحضور السياسي بمعناه العام، لمفاعيل عديدة، ليس منها فقط الشيخوخة وعللها، وإيثار كثيرين ممن يتقدّمون في السنّ الانزواء إلى أنفسهم، والبعد عن الإطلالات الإعلامية والاجتماعية، إلا أن الحص كان واضحاً في قولته، بعد خيبةٍ مشهودةٍ أصابتْه من استهدافه في حربٍ انتخابيةٍ لمجلس النواب في بلده، في العام 2000، إنه يبتعد عن الشأن السياسي وليس عن الشأن الوطني، وهو ما دلّ عليه في مواقف أشهرها الرجل في غير مستجدٍّ بشأن لبنان وفلسطين وغيرهما، (وإنْ لأيٍّ منا أن يختلف مع بعضِها)، فضلا عن أنه تابع نشر مقالاتٍ، ولو بإيقاع أقلّ مما سبق، في غير منبرٍ عربي، ونشر أكثر من كتاب، وقد مات عن 16 مؤلفاً، ضمّن بعضها شهاداتِه المهمّة عن تجاربه في الحياة والسياسة، وهو الأستاذ الجامعي العتيق، والخبير الاقتصادي، والوزير، ثم رئيس خمس حكوماتٍ مرّ بعضُها بمحطّاتٍ بالغة الحساسية. وفي المقابل، لم نُصادف للقدّومي، في سنوات عزلته واعتزاله (وتهميش نفسِه وتهميش الآخرين له) أيّ مواقف معلنةٍ في أيّ شأن، ذات قيمة، يساهم بها في إغناء الجدل الفلسطيني الواسع. وبالكاد نتذكّر منازعته أياماً مع محمود عبّاس على خلافة ياسر عرفات، وكان هذا مثيراً للاستهجان، فهو الذي قدّم "مبدئيّته" على أن يقيم في المتاح من فلسطين، فكيف كان له أن يصير رئيساً. تماما كما أن "الطهارة" السياسية ليست كافيةً، في اعتقاد صاحب هذه الكلمات، لإسناد موقفٍ ذي شحنةٍ وعظية، أشهره الراحل المحترم في رفضه الخلاف بين حركتي فتح وحماس. ثم فاجأنا في إعلانه في 2009 عمّا سمّاها وثيقةً تثبت تورّط محمود عبّاس (ومحمّد دحلان) في قتل عرفات، ولم يستطع أن يكون مقنعاً في هذا، وسرعان ما احتواه عبّاس وأرضاه (أظنّه اعتذر؟). ولمّا استجدّ الربيع العربي، وجدْنا القدّومي، وهو البعثي العتيق قبيل مشاركته في تأسيس حركة فتح، يناهضُه، ثم يهنئ بشّار الأسد لفوزه في "انتخابات" 2014.
للمفارقة، باستثناء دورِه المهم في اتصالات فلسطينية سياسيةٍ مع قيام حركة فتح ثم منظّمة التحرير (مع عبد الناصر ثم السادات ومع حافظ الأسد والسوفييت)، لا تقع على فاروق القدّومي سياسياً ذا لونٍ ما، في عقودٍ طالت بعد ذاك. ولا أظنّ الاكتفاء بالمبدئية والجذرية والعروبيّة يُسعف، وحده، في تسمية أصحابِه رجال سياسة، سيّما إذا "تطعّم" هذا بمثل تلك التهئنة للأسد الابن. على غير هذا الحال، وعلى مسافةٍ أنضج وأوزن، كان حضور سليم الحص، رجلَ سياسةٍ، مبدئيّاً وذا حضور، منذ اختلف مع الرجل الذي جاء به إلى السياسة، إلياس سركيس، ثم مع إميل لحّود، ثم خصوماته مع رفيق الحريري ... ثم ما كتبه وقاله وأعلنه في غير مسألة.