الحريديم يبدّدون نقطة عمياء
تسلّط التفاعلات المترتّبة عن قضية إنهاء إعفاء الشبّان اليهود الحريديم المتشدّدين دينيّاً في إسرائيل من الخدمة العسكريّة الإلزامية الضوء على متناقضات جوهرية داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، ليس أقلّ من الحاجات الماثلة أمام الجيش الإسرائيلي، سيما في مجال المورد البشري، بسبب نتائج الحرب المستمرّة على غزّة. فقبل أن تتصدّر هذه القضية جدول الأعمال السياسي في إسرائيل، على خلفية انتهاء سريان أمر أصدرته الحكومة، ويقضي بتعليق التجنيد الإلزامي لهؤلاء الشبّان، ومطالبة المحكمة العليا بإصدار قرار يلزم الحكومة بسنّ قانون جديد بشأن التجنيد يشمل الشبان الحريديم، راجت تقارير ساهمت في جعل صيرورة مجتمع اليهود الحريديم بمثابة نقطة عمياء في ما تنطوي عليه من تداعياتٍ على مستقبل دولة الاحتلال واقتصادها. وهي تداعياتٌ متأثرة بأمرين يخصّان هذا المجتمع: الأول، نسبة الزيادة الطبيعية فيه، التي تصل إلى 4.2% مقارنة بـ1.4% في المجتمع اليهودي غير الحريدي، وستصل نسبته بين مجمل السكان إلى أكثر من الثلث بعد فترة قصيرة. الثاني، امتناع نسبة عالية جداً من الحريديم من الانخراط في سوق العمل، وضغط قادتهم على المؤسسة الحاكمة للحصول على المزيد من المخصّصات الاجتماعية التي تشكل عبئاً ليس بقليل على الخزينة العامة، كذلك فإن نمط حياتهم التقشّفي لا يساهم في النمو الاقتصادي، وفوق هذا كله امتناعهم عن أداء الخدمة العسكرية في الجيش من منطلقات دينية، وحتى المؤشّرات الأخيرة التي بدأت تظهر حول استعداد نسبة ضئيلة منهم للمشاركة في الخدمة العسكرية تدلّ على أنها مشاركة جزئية وهامشية.
ويبدو أنه نتيجة لرسوخ هذه النقطة العمياء، بتنا نصادف في كثير من الأدبيات الإسرائيلية تقارير تأتي على "تطوّرات عميقة" و"أسرلة" في صفوف قطاع الحريديم، وانتشرت ليس فقط على لسان ناطقين وناطقات بلسان هذا القطاع، إنما من خارجه أيضاً. وما يتبيّن الآن أنها مجرّد تمنيات في أحسن الحالات وألاعيب سياسية في أسوأها، الغرض منها استمرار شرعنة الحلف التاريخي الذي يعتمد عليه حُكم حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو.
وضمن هذه المستجدّات، أظهرت نتائج استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أخيراً أن 70% من الحريديم لا يرون سبباً لتغيير الإعفاء الممنوح لهم من الخدمة العسكرية. وهي نسبة مشابهة للتي نشرها استطلاع سابق نشره معهد سياسات الشعب اليهودي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وهذا يدلّ على أن الكلام الصادر عن الحاخام الأكبر لليهود الحريديم الشرقيين، يتسحاق يوسف، الذي هدّد بهجرة جماعية للحريديم من إسرائيل، إذا فُرض عليهم قانون التجنيد الإجباري، وكذلك افتتاحية صحيفة ياتيد نئمان، الناطقة بلسان الحريديم الأشكيناز التي اعتبرت أن دراسة الشبان الحريديم التوراة تعود بالنفع على إسرائيل، ليس أقل من الخدمة العسكرية، لم يظهرا من عدمٍ، بل من وجود رابطة وثيقة بين الحريديم وزعامتهم في كل المستويات.
وينبغي إعادة التذكير بأن الحريديم يتطلّعون، أكثر من أي غاية أخرى، إلى ترميم "عالم التوراة" في إسرائيل، بعد تدميره في أوروبا، خصوصاً إبّان الحرب العالمية الثانية، وهذا التطلّع ينبع من الإيمان الذي يعتبر أن "تعلّم التوراة عمل وجودي بالنسبة إلى الشعب اليهودي". ويختلف تفسير الحريديم لـ"تعلم التوراة" عن الاعتقاد السائد، إذ إنهم يقصدون به دراسة الغمرا (التلمود البابلي) أو التلمود وتفسيراتهما.
وبعد دمار مراكز اليهود والحريديم في أوروبا، بقيت الولايات المتحدة، ومن ثم إسرائيل، بعد قيامها، بمثابة المركزَين الكبيرين الوحيدين لتعلُّم التوراة. وتطوّرت في هذين البلدين مراكز هامة لتعلم التوراة وكذلك لليهود الحريديم، لكن كلا المركزين، الإسرائيلي والأميركي، كانا مختلفين، إذ يدرُس في مؤسّسات تعلُّم التوراة في الولايات المتحدة طلاب حتى سنِّ الزواج أو بعد الزواج بسنوات قليلة، وقلة من الحريديم فقط درسوا في هذه المؤسّسات فترة أطول بعد الزواج. في المقابل، تطوّرت في إسرائيل مؤسسة "كوليل" التي يدرس فيها الحريديم الرجال المتزوّجون، وهكذا تطوّرت ظاهرة فريدة من نوعها، وصفها علماء الاجتماع الإسرائيليون بـ"مجتمع الدارسين".