الحريديم في مهمّة أخيرة

16 مارس 2024

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

لم يخرُج الحريديم في إسرائيل من العدم، بل كانوا جزءاً من المجتمع اليهودي منذ ما قبل نشأة الاحتلال على أرض فلسطين وحتى "انتفاضة" حاخام السفاريم (اليهود الشرقيين) الأكبر يتسحاق يوسف، أخيراً، رافضاً انضمام الموالين له إلى جيش الاحتلال. لم تكن المرّة الأولى التي يبرُز فيها الحريديم داخل المجتمع الإسرائيلي، فهم، وإن كانوا أقلية، أصبحوا قوة وازنة، خصوصاً قبل "7 أكتوبر"، بفعل تشكيل بنيامين نتنياهو حكومة يمينية متطرّفة، جمع فيها كل من كان على هامش صناعة القرار الإسرائيلي طوال السنوات الـ76 الماضية. وكأي مجموعة، دينية أو لا، تصل إلى السلطة، عمَد الحريديم في حقبة نتنياهو إلى توسيع نفوذهم بين الأوساط العلمانية، خصوصاً في تل أبيب. ولعل صدامات "يوم الغفران"، في 23 و24 سبتمبر/ أيلول الماضي، بين العلمانيين والمتديّنين، ترجمت خلافاً عميقاً في قلب "دولة ديمقراطية، يهودية القومية".

لم يكن الاحتلال ليحتاج هذه النزعة من الصراع الأيديولوجي، في مثل هذا الوقت، حيث من المفترض، وفقاً للأدبيات الإسرائيلية، أن تتجلّى الوحدة في المجتمع "لأن خطراً وجودياً يهدّدهم". غير أنه لم يعد من الوارد تجاهل حتمية هذا الصراع، وإن انفجر، أخيراً، على خلفية النقاشات بشأن استدعاء 66 ألف شاب حريدي إلى الجيش. يتّصل جوهر هذه النقاشات بثلاثية متعلقة بمستقبل الشعب الإسرائيلي: دور الحريديم والعلمانيين في إسرائيل الغد، والقدرة على استيلاد صيغة للعيش المشترك بين مجتمعيْن في مجتمع واحد لإدارة الانقسام، وإيجاد نقطة التوازن المشتركة بين المجتمعين لمعالجة أي ملفٍّ خارجي أو داخلي يتجاوز الحسابات الانتخابية.

في مثل هذه الثلاثية، يبقى نتنياهو مستعدّاً للتنازل ومنح الحريديم ما يشاؤون، لا لأنه فعلاً شخص متطرّف، بقدر ما أن خياراته السياسية انعدمت في صياغة تحالفاتٍ تبقيه على قيد الحياة سياسياً. في المقابل، يعلم زعيم المعارضة يائير لبيد، الذي يتفق مع رئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان على ضرورة دمج الحريديم في الجيش، وبالتالي تحويلهم إلى قوة عاملة في الاقتصاد الإسرائيلي لاحقاً، يعلم أنه لا يخوض معركة ضد الحريديم تحديداً، بل يقارعهم باسم العلمانيين، الكتلة الانتخابية الوازنة في إسرائيل. وعملياً إن تمسّك لبيد باستدعاء الـ66 ألف حريدي، سيكون معركةً غير مقنعة بلغة الأرقام، لكنها جذابة في الجدالات السياسية.

الأسوأ بالنسبة للإسرائيليين أن الانقسام الذي ساد في مرحلة ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وبدء العدوان على غزّة، لم تتم تنحيته جانباً، ولا حتى إيجاد معادلة لمعالجته بهدوء، بل توحي الاشتباكات السياسية والإعلامية في إسرائيل بأن الطرفين أمام مواجهة صعبة، لا بد فيها أن يخضع طرفٌ للآخر، في مهمةٍ قد تكون أخيرة للحريديم. وقد يكون هنا، من الفرضيات، أن يهرُب نتنياهو إلى حربٍ جديدة، ريثما يُستنبط حلُّ ما، يسمح بتهدئة الجبهات العلمانية ـ الحريدية.

يتصرّف العلمانيون على قاعدة أن "اليهودية ثقافة" لا ممارسة يومية مُضنية، فيما يعتبر الحريديم أن "اليهودية منبثقة من اختيار الله لهم" من بين شعوب الأرض. الحالتان لا تستقيمان في مثل هذه الأيام، بوجود الإنترنت والمعلومات الكثيفة التي يتلقّاها الفرد والجماعة. جماد الحريديم، يقابله جمادٌ مماثلٌ للعلمانيين. في أي بلاد فعلية، مثل تركيا وفرنسا، النقاشات بين العلمنة والدين تنتج نظريات تسووية، مبنية على ديمقراطية البلدين، فيما لا يمكن تطبيق ذلك في إسرائيل، سواء بفعل احتلالها فلسطين، أو بحكم أن نتائج مثل هذه النقاشات مكلفة للطرفين لخطّ أي مسارٍ مستقبلي.

لن يجد العلمانيون والمتديّنون حلولاً فورية، لكن إسرائيل، مع تراكم الجماد والتصلّب بين الطرفين، بما يجعلهما "دولتين في دولة واحدة"، ستّتجه إلى مرحلة تُصبح معها خلافات بنيامين نتنياهو وبيني غانتس مجرّد جدال أطفال في حديقة خلفية، مقارنة بصداماتٍ دينية ـ علمانية. ومثل هذا الجدال جوهري في العقلية الإسرائيلية، وموروث تاريخي، منذ الحرب بين المملكة الإسرائيلية الشمالية ويهوذا.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".