الحرية تبدأ من المنازل
خلال أسبوع واحد في مفتتح العام الجديد، تتالت أخبار سقوط جثث النساء العرب. في مصر يتصدّر وسم "حق بسنت" موقع تويتر، وهي فتاة عمرها 17 عاما انتحرت بتسميم نفسها بعد نشر صور فاضحة منسوبة لها. ومن سورية، يأتينا وسم "حق آيات الرفاعي"، وهي قتيلة عمرها 19 عاما على يد زوجها، بفعل تعرّضها لضرب مبرح. أما العراق بدوره فقد أنتج وسم "حق حوراء"، وهي طفلة عمرها سبع سنوات، اغتصبها منتسبٌ للشرطة العراقية. وعلى حدود عالمنا العربي، تأتينا من إيران أنباء العثور على جثتيّ فتاتين، قتلهما أقاربهما، بسبب هربهما من المنزل عدة أيام، على الرغم من أنهما كانتا قد اتصلتا بالأسرة قبلها، ورحبت الأسرة بعودتهما.
تجمع تلك القصص، والتي تتكرّر يوميا، بنية مجتمعية عميقة، ترى المرأة شيئاً مملوكاً للأسرة أو العشيرة، حيث هذا الشيء موضع فخر، إذا صيغ كما يُراد له بالضبط، وموضع عار يستحق التدمير، إذا خرج قيد أنملة عن الخط المرسوم. وهذا الخط يحمل الكلمة السحرية الغامضة: "الشرف". هكذا نرى والد بسنت يؤكد أن قضية ابنته "شرف أسرة وبلد"، مشدّدا على أن الصور مفبركة، كأنها لو لم تكن كذلك لما صارت ابنته صاحبة حق. وللمفارقة، صدر بيان النيابة العامة المصرية بعد أيام ليقول إن المتهمين المقبوض عليهما يواجِه أحدهما تهمة هتك عرض طفلة بسبب ملامسته جسدها، والآخر الاستيلاء على مواد خاصة من هاتفها. اختفت تصريحات أسرة بسنت تماما بعدها، وسط إشاراتٍ مريبةٍ مثل تصريح لخالتها أنها عرفت بشرائها أقراص الغلة قبل الانتحار بأسبوع.
تفاصيل أليمة أخرى تأتي من سورية، فقد اعتاد الزوج، وكذلك أفراد آخرون من أسرته، على ضرب آيات التي عوملت كخادمة، وسمع الجيران صياحها مرارا، من دون أن تتدخل قط أسرتها، باعتبار أن من العادي أن يؤدّب الزوج زوجته.
وفي العراق، كشف المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن الجاني نفسه كان قد ارتكب الجريمة نفسها سابقا، إلا أن أسرة الفتاة المغتصبة الأولى قد قتلتها، وهكذا ظل المجرم طليقا مطمئنا ليكرر فعلته.
تثور ثائرة الملايين لأجل أنباء عن اعتقال فتاة معارضة سياسيا على يد حاكم، بينما لا يعبأ أحدٌ بسجن فتيات في منازل أهلهن، مع أن الجريمة واحدة. كانت ضمن مضبوطات قضية آيات الرفاعي عصا خشبية ذات مسامير بارزة. أليست هذه أداة تعذيب؟ كم منها في البيوت العربية من دون استنكار؟
إذا كانت طرق التغيير السياسي مغلقة، فإن طرق التغيير الاجتماعي لم تزل مفتوحة، وبيد دعاة الحرية لو كانوا صادقين العمل في دوائر عائلاتهم وبلداتهم. وإذا كان النيْل من الطغاة الكبار أمراً بعيداً، فإن النيل من الطغاة الصغار ليس بالبعيد، على الرغم من أنه لا يقل تعقيدا وحاجة للشجاعة في مواجهة الصديق قبل العدو.
في آخر مقال كتبه، يروي المفكر الراحل جورج طرابيشي موقفا مصيريا غير أفكاره، ذلك أنه حين كان مسجونا في سورية مع رفاق من حزب البعث بعد خلاف داخلي، دار نقاش بشأن قتل الشرف، فقال إنه لن يذبح أبدا ابنته الحبيبة مهما حدث، فثار رفاقه ووصموه بأنه لا يستحق أن يكون عربيا أو بعثيا، وقاطعوه حتى اضطر للانتقال إلى زنزانة انفرادية. يعلق طرابيشي: "يومها تعلّمت درساً جديداً، وهو أنّ القضيّة ليست فقط قضية مسلمين وغير مسلمين، ومسيحيين وغير مسيحيين، من حيث الوعي الاجتماعي، حتى ولو كانوا ينتمون إلى أيديولوجيا واحدة. فالقضية أعمق من ذلك بكثير. قضية بنى عقليّة في المقام الأول. ففي داخل المخّ البشري توجد طبقتان: طبقة فوقية سطحية يمكن أن تكون سياسية، تقدّمية، اشتراكية، وحدويّة، وطبقة بنيوية تحتيّة داخل هذا المخّ رجعيّة حتّى الموت، سواء كان حاملها مسيحيـاً أو مسلمــاً. ومنذ ذلك اليوم، توطد لديّ الاقتناع بأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدّد الموقف من العالم بأسره".