الحرب الثالثة في غزة والانتفاضة الثالثة
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، ستحتفل غزة، ومعها فلسطين، ومن ناصرها على امتداد العالم بالانتصار. مهما كانت الخسائر ماديا وبشريا، لن تستطيع قوة الاحتلال الصهيونية اقتلاع حركة حماس، ولن تستطيع التقليل مما حققته استراتيجيا.
منذ بدء الحرب، تحرّك الوسطاء، سواء أكانوا المصريين أم القطريين أم الأمم المتحدة، وهم يدركون أن الطرفين حريصان على إنهاء الحرب بأسرع وقت، ولا مصلحة لهما بإطالة أمدها، وهما في لعبة عضّ أصابع ستنتهي في غضون أيام، أو أسابيع على الأكثر.
رفضت "حماس" عروض وقف إطلاق النار، وطلبت أن توافق إسرائيل أولا، وبعدها تدرس العرض، وهي لن توقف قصفها ما لم توقف إسرائيل عدوانها في القدس قبل غزة. وهي لن تردّ سريعا إلى حين الوصول إلى صيد ثمين يحفظ ماء وجه نتنياهو، لكن نَفس نتنياهو قصير، ولن يغامر بحربٍ طويلة، ولا اجتياح برّي واسع. وهو في مثل كل حربٍ، سيتباهى وقادته بتدمير البنية العسكرية لحركة حماس، واغتيال كبار قادتها.
من دروس الحروب السابقة، أن "حماس" تعود أقوى عسكريا، وتضاعف ترسانتها كمّا ونوعا. وهي حققت، في هذه الحرب، بمعزل عن موعد نهايتها، أرباحا استراتيجية، تهون أمامها أي تضحيات، وأبرزها:
أولا، أعادت القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، فهي ليست صراعا على مغانم السلطة بين رام الله وغزة. هي صراع مع الاحتلال، جوهره القدس، وهو صراعٌ ظهر بأجمل تجلياته عالميا قبيل الحرب، عندما هيمنت صور الفلسطيني الجميل في القدس على الفضاء الرقمي، مدنيون عزَّل يتحلّون بالعزيمة والشجاعة في مواجهة قوةٍ همجية. العالم كله ضجَّ بالبث المباشر للمشاهير، وصور لا تنتهي على مدار الساعة، قوامها جيلٌ فتيٌّ يبرع في استخدام المنصات الرقمية، وتحدّى هيمنة اللوبيات الصهيونية فيها، وطوّعها لنصرة القدس في تضامن عالمي نادر وغير مسبوق، وصل إلى أجيال ظلت بعيدة عن القدس والسياسة عموما.
هنا أنقل عن ناشطة سعودية تدرس الدكتوراه في بريطانيا، وتدخل في سجالات مع الصهاينة في غرف "لكلوب هاوس"، كيف اشتكى صهاينة بريطانيون من أن أولادهم لا يستطيعون نشر صور على "أنستغرام" تتضامن مع إسرائيل، خشية توبيخ أقرانهم لهم... اضطرّت منصة إنستغرام للتراجع عن حذف حسابات، والتضييق على حملات التضامن بعد التصدّي لها... هذه الحرب الناعمة اندرجت فيها "حماس" بأكثر الحروب خشونة في تاريخ الصراع.
ثانيا، حجم القوة الصاروخية الذي أذهل الجميع. وحسب ما وصف مراسل الإذاعة العسكرية الإسرائيلية، الهجوم الصاروخي الذي زاد على ألفي صاروخ في يومين هو الأكبر في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ونجح في كسر القبة الحديدية والضرب في قلب القدس وتل أبيب، مُحدثا مشاهد لم يسبق للعالم والعرب والإسرائيليين رؤيتها. ذلك أظهر أن المقاومة لا تتحلى بالشجاعة والتضحية فقط، بل هي تتمتع بذكاء خارق، وإبداع فاجأ العالم، فتجهيز الصواريخ النوعية والمسيَّرات مهماتٌ تنوء بها دولٌ غنية، فكيف بجيبٍ محاصر؟ تأثر الردع وتوازن الرعب لا يقل أهمية عن رفع الحالة المعنوية للأمة كلها، وليس لفلسطين وحدها.
ثالثا، فلسطين واحدة، ليس في غزة ورام الله. كانت القدس العنوان الذي التقى عنده الجميع، ودخل فلسطينيو 48 بقوة من اليوم الأول للمواجهة. ولم يكن فلسطينو الشتات بعيدين عمَّا يجري، وكان دورهم فاعلا حيثما حلوا في ديار العرب والغرب. هذه الوحدة الفلسطينية ميدانيا تحتاج مأسسة وقيادة ترقى إلى مستواها.
رابعا، الانخراط العربي غير مسبوق، وهو ما أسقط اتفاقات التطبيع. ومن يتابع منصّات التواصل يلاحظ مدى انشغال العرب بقضيتهم الأولى، وخصوصا الأجيال الشابة. تصدّرت الوسوم المتضامنة مع فلسطين الترند في السعودية ومصر والأردن والكويت، والعالم العربي عموما، وساندتها تظاهرات ميدانية حيثما سمحت السلطات.
هذا الكسب الاستراتيجي ليس لحركة حماس ولا لغزة، هو لكل فلسطين التي تستحق الخسائر في الأرواح والبنية التحتية من أجلها. لكنها ليست تضحياتٍ تختص بها غزة. يبقى السؤال: أين الضفة؟ عندما تحضر السلطة تغيب فلسطين؟ مؤسفٌ موقفها، وخصوصا في اعتقال منفذ عملية زعترة، رجل الأعمال الأربعيني وحامل الجنسية الأميركية يضحي بكل شيء، وجواسيس التنسيق الأمني يقدّمون كل شيء لاعتقاله وترويع أسرته، إنه المشهد القبيح في اللوحة الرائعة. .. المأمول أن تكتمل اللوحة بالضفة.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.